وإما أن يرفع يديه نحو السماء، ويجعل بينهما فرجة حتى يرى بياض إبطيه من المبالغة في الرفع، وهذه الصفة أخص من سابقتها، وهي خاصة في حالة الشدة والرهبة؛ كما لو عظمت النازلة بتسلط الأعداء على المسلمين وعلى ديارهم.
١٨ - اتفق العلماء على أنه لا يستحب مسح غير الوجه كمسح الصدر ونحوه، واختلفوا في مسح الوجه على قولين، لا ينكر على من أخذ بأحدهما. والأقرب: عدم مشروعية المسح؛ اختاره شيخ الإسلام، وابن عثيمين، والألباني، وبكر وأبو زيد.
١٩ - ذكر بعض العلماء أنه إذا قنت قبل الركوع أنه يكبر قبل بدء القنوت؛ روي عن بعض الصحابة.
٢٠ - الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا يتعين دعاء مخصص في قنوت النوازل، بل يدعو بما يناسب تلك النازلة، ولا بأس أن يدعو بما دعا به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
٢١ - أن قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: ١٢٨] أكثر العلماء على أنها ليست ناسخة لقنوت النوازل، وإنما نزلت تأديباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعليه يجوز الدعاء على الكافرين ولعنتهم.
والدعاء عليهم ينقسم إلى قسمين:
١ - الذين يحاربون المؤمنين، ويصدون عن الدين؛ فهؤلاء تجوز لعنتهم في قول أكثر العلماء.
٢ - الذين لم ينتهكوا حرمة الدين ولم يقاتلوا المؤمنين، ويرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام، فهؤلاء لا تجوز لعنتهم، وإنما يدعا لهم بالهداية والتوبة، وفي ذلك جمع بين الأدلة.
٢٢ - القول الراجح أن المأموم يتابع الإمام فيؤمن عند دعائه، ويسكت عند ثنائه، وإن شاركه فلا بأس؛ كأن يقول: سبحانه، ونحو ذلك. ولا يقنت ويجهر مع إمامه، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز.
٢٣ - الراجح: استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله كما ذهب إليه الجمهور، واختاره شيخ الإسلام، وأما المأموم عند صلاة القانت على النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل يؤمن فيها أو يشارك؟ المعتمد هو الأول، ولو جمع بينهما لكان حسناً كما قرره بعض الشافعية، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله.
٢٤ - إذا لم يسمع المأموم قنوت الإمام لعارض، قنت سراً والحمد لله.
٢٥ - الراجح والله أعلم أن سجود السهو لا يشرع لترك قنوت النوازل، ومن سجد فقد خالف السنة؛ لأن القنوت في الأصل سنة فلا تبطل الصلاة بتركه عمداً أو سهواً، اختاره ابن قدامة، وابن قاسم.
٢٦ - أن من أدرك الركعة الأخيرة مع الإمام سواء قنت قبل الركوع أو بعده فإنه لا يعيد القنوت، وأما من لم يدرك الركعة الأخيرة بأن دخل مع الإمام بعد الركوع وهو يقنت فإنه يعيد إن شاء. أفتى به مالك.
٢٧ - أنه يجب على الإمام أن يجتنب الإطالة في دعاء القنوت مما يشق على المأمومين ويضارهم، وإذا كان النهي عن إطالة القراءة في الصلاة فالدعاء من باب أولى.
٢٨ - أن الإمام يقنت في الصلوات الخمس عند أول نزول النازلة، ثم إذا خفت النازلة قنت في الفجر والمغرب لكونهما طرفي النهار، ومظنة إجابة الدعاء فيهما، ثم إذا زالت ترك القنوت، وكل ذلك يخضع إلى مصلحة المسلمين وحاجتهم إلى الدعاء والاستنصار؛ لأنه قد تعود النازلة مرة أخرى فلا يمنع أن يعيد القنوت في الصلوات الخمس تبعاً لحال النازلة شدة أو استمراراً، أومأت إلى ذلك اللجنة.
وختاماً:
أعلم أيها الخِل المكافح، والمحب المصافح، أن أول ما تعتقده أن الخطأ والنسيان من أوصاف الإنسان، وإن كان في المعارف عظيم القدر رفيع الشأن، وله في الحفظ والذكاء والفهم باع مديد وعقل حديد، وقد وقع في ذلك الفحول والعلماء مع تبحرهم في المعقول والنقول، واطلاعهم على الروايات والمنقول. وقد قال إمام دار الهجرة سيد بني أصبح، مالك بن أنس: كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر هادي البشرية، ومنقذ الإنسانية، سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم.
وكما يجوز الغلط والزلة على الإنسان كذلك لا نستبعد أن يهب الله لبعض عبيده ما نبا وشرد على عقول من تقدمه من فحول الأئمة، وكذلك قال الإمام النحوي اللغوي الأديب أبو عبد الله محمد بن مالك: (إذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين).
ومن أمثلة العلماء السائرة:
(يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) قالوا: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. وورد أن الحجاج قال في بعض خطبه: إن الله تكفل لنا برزق الدنيا، ووكلنا إلى رزق الآخرة، فياليته تكفل لنا برزق الآخرة ووكلنا إلى رزق الدنيا. قال إمام الزاهدين الحسن البصري: كلمة حكمة صدرت من فاسق.
وليس مثلي إلا كما قال الخليل بن أحمد:
خذ العلوم ولا تعبأ بناقلها ... واقصد بذلك وجه الواحد الباري
إن العلوم كما الأشجار مثمرة ... اجن الثمار وخل العود للنار
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضرك تقصاري