وبقي أن أذكر في هذه الخاتمة الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها لما حاضت وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)؛ فقد استدل به كلٌّ من أصحاب القول الأول والقول الثاني.
أما أصحاب القول الأول - وبالأخص منهم أصحاب الشافعي - فقد استدلوا به على المنع بقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تسعَ كما لم تطُف، فلو لم يكن السعي متوقفاً على تقدم الطواف عليه ما أخرته، واعتُرض عليه بأن السنة جاءت برفع الحرج عمن قدم السعي على الطواف، فإن لم يُسلَّم بذلك؛ فيمكن أن يقال كما تقدم: إن عائشة رضي الله عنها لم تفعل السعي كما فعلت غيره من المناسك – والله أعلم – لا لأجل أن تقديم الطواف عليه شرط؛ بل لأن الإتيان بالسعي بعد الطواف كمالٌ واتباع للسنة، وأن ما أباحه الله ورسوله ولم يُرَ فيه حرج فهو مشروع، ولكنه ترك الأفضل، كما أن فعلها رضي الله عنها لا يدل بنفسه على الوجوب ولا يخصص العموم، ومما أيَّد عدم ارتباط حكم المسألة بفعل عائشة رضي الله عنها ما ورد من الأحاديث الأخرى في ذلك؛ كحديث:(الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت)، وغيره من الأحاديث التي تقدم الكلام عليها، ثم ختمتُ مناقشة هذا الدليل بإلزام من استدل بهذا الحديث على المنع أن يقوم باشتراط الطهارة للسعي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تسعَ رضي الله عنها على غير طهارة كما لم تطُف، فلو لم يكن السعي متوقفاً على الطهارة لما أخرته؛ وهم لا يشترطون ذلك، ومعلوم أن جماهير الأمة – إلا من شذ – لا يشترطون الطهارة للسعي؛ أخذاً بعموم حديث عائشة:(افعلي ما يفعل الحاج) ويدخل فيه السعي، وهم بذلك قد استعملوا شيئاً في مكان وتركوه في آخر، كما فرقوا بين الفعل وأوصافه، والفعل لا ينفك عن أوصافه، فإذا جاء فعل عم أوصافه المقترنة به، فإذا جاز الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها على عدم اشتراط الطهارة للسعي؛ كان فعل السعي نظيره، وإلا كان مخير أحدهما – إذا منع الآخر – متحكماً، والتحكم لا يعجز عنه أحد. ثم لا يتصور أن يُستدل بالحديث على جواز وصف الفعل دون أصله، فما لا يجوز أصله كيف يجوز وصفه؟ فكيف يستدل بالحديث على جواز السعي على غير طهارة ولا يستدل على جواز أصل السعي؟ والله أعلم.
ولذلك حاول البعض أن يكون قوله مطَّرداً في ذلك؛ فمنع الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها على عدم اشتراط الطهارة للسعي؛ لأنه يلزم منه تقديم السعي على الطواف. وأما توجيه الحافظ العراقي وابن رجب وأبي الوليد الباحي وغيرهم بأن السعي لم يدخل في عموم الحديث؛ لأنه تابع للطواف ولا يفعل إلا بعده، فأجبنا عنه بأن ما ذكروا مصادرة على المطلوب؛ لأن كون السعي لا يكون إلا بعد الطواف، وهو محل النزاع، والله أعلم.
وأما أصحاب القول الثاني: فقد استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم على الجواز؛ مع ذكري لأحاديث أخرى في هذا الباب في معنى حديث عائشة رضي الله عنها، واجتهدت في ذكر وجوه الدلالة من هذه الأحاديث، وذكرت خمسة أوجه، ولم أجد ما يمكن أن يعترض به عليها؛ سوى ما تقدم من عدم التسليم بدخول السعي في عموم حديث:(افعلي ما يفعل الحاج)؛ لأنه تابع للطواف فلا يفعل إلا بعده. وتقدم الجواب عنه –أيضاً- وأنه استدلال في محل النزاع كما نبهت على رواية:(ولا بين الصفا والمروة)، وذكرت كلام أهل العلم في شذوذها وعدم الأخذ بها. وأنبِّه أيضاً إلى أنني لم أجد من استدل بحديث عائشة - المتقدم على الجواز - سوى الإمام ابن حزم، وهو ظاهر قول عكرمة كما تقدم، وظاهر النص موافق لما ذكروه، والله أعلم.