ثم علل ذلك بأنه لا يشهد للتسمية من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، فالأظهر أنه كاللقب، فالذين قالوا: إنه من الصوف ولبسه، فذلك وجه، ولكنهم لا يختصون بلبس الصوف، والذين قالوا: يرد إلى الصفة التي في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي، ومن قال: إنه من الصف الأول، بعيد أيضا في مقتضى اللغة.
٤ - دلت دراسة الأصول القرآنية للمصطلحات الصوفية على أن التصوف من حيث مبدأ الزهد أصيل المنشأ في البيئة الإسلامية، فلا مؤثرات أجنبية ملحوظة حتى منتصف القرن الثالث الهجري على الأقل، ومن الطبيعي أن الأمر طالما أنه اجتهاد لخدمة الدين وتطبيقه من الجانب العملي، وتجسيد لمذاقات العبودية في صورة نظرية، فمن المعقول أن يختلف الأمر من شخص إلى آخر، ومن مذاق إلى آخر، ومن ثم فسوف يؤخذ منه ويرد، وسوف يخضع لعوامل التطور واحتمال الخطأ والصواب، والنقد والمخالفة.
٥ - إن التوحيد الصوفي عند أغلب أوائل الصوفية لا يجافي التوحيد السني، بل يتآزران في التعبير عن عقيدة الكتاب والسنة، فالتوحيد الصوفي لأوائل الصوفية شدد على ضرورة التخلص من خفايا الشرك والرياء والكبر وعبودية الدرهم والدينار، والنفس والشيطان. وجميع المصطلحات ذات الأصول القرآنية تشهد لذلك، ولم يثبت من خلالها جواز الأفعال التي تنسب إلى التصوف في هذا العصر، من عكوف على قبور الصالحين، ودعاء الأموات، وإقامة الموالد لهم، والاستعانة بهم، والتوكل عليهم، والنذر لهم أو شد الرحال إليهم، بل مصطلحاتهم في توحيد العبادة تدل على السمو في تحقيق الإيمان وتجسيده.
٦ - إن بعض السلبيات الصوفية التي وجدت عند الأوائل وأثرت على الزيادة في زاوية الانحراف عبر القرون تتمثل في الغلو في الطاعة، والالتزام بما ليس بلازم من الأحكام، فكثير منهم نزل المندوب منزلة الوجوب، وشق على نفسه في كثير من النواحي التي جعل الشرع فيها مندوحة واسعة، فأصبحت هذه الالتزامات سنة عند المتأخرين لا يسعهم الخروج عنها، وكل طريقة شددت على المريدين في الالتزام بمنهجها الخاص، وإن لم ينسجم مع السنة في كثير من النواحي، مما فتح الباب للاجتهاد في التصور الخاطئ لعلاقة الحب بين العبد وربه، فظهرت آراء شاذة ألصقها الناس في أذهانهم بعامة الصوفية دون بعضهم، فآراء الحلاج، وشطحات أبي يزيد البسطامي والشبلي والنوري وغيرهم، جعلت الناس يرفعونها على حساب التصوف من ناحية، وإهمال الموقف الإيجابي للمشايخ في التبرؤ منها وتقبيحها من ناحية أخرى، ومما زاد في إلصاق هذه الأفكار بهم أنها وجدت فلسفة أخرى عند ابن عربي وابن الفارض وغيرهما، ساعدت على إظهار المزيد من التجاوزات، فأثمرت هذه الآراء علقما وحنظلا، تتجرع الأمة الإسلامية مرارته.
٧ - الاستغلال السيئ لبعض المصطلحات الصوفية من قبل المرتسمين بالتصوف أو المعادين له أو للإسلام بصفة عامة، فمن خلال عرض أوائل الصوفية لأقوال المخطئين في فهم هذه المصطلحات، أو النظرة العامة للتطور الدلالي لكل مصطلح صوفي عبر مراحل التصوف المختلفة، يستطيع الباحث أن يرى مدى الجهد المبذول لكشف المقصود في استعمال المصطلح المعين من ناحية، وفهم الأثر السيئ لهذه المصطلحات والجهد المطلوب لرده من ناحية أخرى.