كذلك لا تعني هذه المرونة أن تلفق الاستدلالات والتفسيرات والتبريرات لكل ما دخل على الناس في تشريعاتهم وتقنيناتهم من باطل جاء الإسلام بإنكاره أصلاً وفرعاً، وما تمكن فيهم من جاهليات يتنزه شرع الله أن يسعها بأحكامه تقريراً واعتباراً بل ينبه إليها نفياً وإنكاراً.
إن الصلاحية التي تتصف بها الشريعة الإسلامية هي صلاحية بالأصالة، ومرونتها مرونة ذاتية جوهرية، لأنها شريعة الله المحكمة ووحيه المنزل الذي تكفل ـ كما ذكرنا ـ بحفظه ورعايته، ولأن هذا التعدد والتنوع في الأدلة إنما كان ـ أيضاً ـ ليحفظ هذه الشريعة بنقاوتها وصفائها، ويدفع عنها كل ما يشوب هذا الصفاء أو يشوه تلك النقاوة، ولذا كانت هذه المرونة ـ على اتساعها ـ منضبطة بضوابط وقواعد، بحيث تبقى على أصالة هذه الشريعة وذاتيتها وجوهرها، وحتى لا ينطلق العنان بكل باحث ومجتهد أن يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله تعالى.
ولهذا نجد أن لكل دليل من أدلة التشريع وكل مصدر من مصادر أحكامه قواعده وضوابطه، على أساسها تستنبط الأحكام، وبمراعاتها تستخرج المسائل والفروع، وتفهم المقاصد والغايات، وفي ضوئها تجلب المصالح والمنافع، وتدرأ المضار والمفاسد.
فنصوص الكتاب والسنة لها أصالتها وحصانتها، فلا مساغ للاجتهاد عند مورد النص، وما ثبت من حكم شرعي بنص صحيح وصريح فهو حكم ثابت وشرع محكم لا يتغير ولا يتبدل، ولا يجوز لأحد أن يخالفه مهما تغير الزمن وتبدلت الأحوال وادعي من المصلحة بمخالفته ما ادعي، لأن المصلحة ثابتة فيما شرع الله لعبادة أو سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، والمفسدة في مخالفة أمرهما.
وما لم ينص عليه صريحاً في كتاب أو سنة فهناك قواعد وضوابط ـ مستوحاة من الكتاب والسنة أنفسهماـ على أساسها تفهم النصوص وتستخرج الأحكام.
ثم الاجتهاد ـ جماعياً كان أو فردياً ـ لا يكون أبداً إلا إذا فقد النص الصريح، وله أيضاً قواعده وضوابطه: فلا بد في الإجماع من مستند شرعي يعتمد عليه، مع ما اشترطه العلماء من شروط وقيود استوحوها من الكتاب والسنة، ليصبح الإجماع حجة ويكون حكمه ملزماً.
وللقياس ـ أيضاً ـ أركانه وشروطه، وضوابطه وقيوده، وأسسه وقواعده حتى يكون مُعْتبراً ومَدْركاً من مدارك الأحكام.
وكذلك رأينا ـ عند بحث أبواب هذه الرسالة ـ كيف أن كل دليل من الأدلة التي بحثت كان له شروط وقيود حتى يكون حجة معتبرة لدى من يقول به، فلا يخرج عن جوهر الشريعة وأصالتها، فلا عبرة بكل ما يصادم نصاً تشريعياً أو أصلاً متفقاً عليه من أصول الشريعة، سواء كان المصادم مصلحة أم استحساناً أم عرفاً أم غير ذلك، وسواء كان ظاهره جلب منفعة أم دفع مفسدة، لأن المصلحة فيه عندئذ تكون وهمية طالما أنه يصادم نصاً شرعياً ثابتاً، أو أصلاً من أصول التشريع.
وحسبنا دليلاً على هذا أن القائلين بسد الذرائع إنما حملهم على القول به خوفهم من التلاعب على أحكام الشريعة، أو الوصول إلى العبث فيها، باتخاذ ما هو حلال من حيث الظاهر والأصل وسيلة إلى ما هو ممنوع ومحرم، فقالوا بسد الذرائع احتياطاً في شرع الله، مع أن الأمر لا يعدو ـ في الغالب ـ قيام شبهة في القصد، فما بالك إذا كان القصد صريحاً، والتحريم لما أحل والتحليل لما حرم مقصوداً وجريئاً؟ .. ويدعي أنه المصلحة وحاجة الزمن؟ .. فلا شك أنه مرفوض ومردود، والقول به فسوق ومروق، يخرج به مستحلة عن الإسلام، ويخلع عنه ربقة الإيمان، خاصة إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة، كالقول بحل الربا، أو استباحة الخمر، أو خروج النساء كاسيات عاريات مائلات مميلات بحجة أن العرف قد جرى بهذا، أو أن المصلحة تقتضي ذاك، فالحق أنه لا مصلحة في مخالفة شرع الله، وإنما هي المفسدة والأهواء والضلال، تسيطر على النفوس المريضة كما سيطرت على أتباع الشرائع السابقة، فضلوا وأضلوا، وأضاعوا شرع الله تعالى ودينه المنزل عليهم، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، فلعنهم الله على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون: ?كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون?.
أما وأن هذه الشريعة خاتمة الشرائع فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يحفظها ويصونها، فقيض لها ـ في كل حين وزمن ـ علماء مخلصين ومجتهدين عالمين وطائفة بالحق ظاهرين، أنار قلوبهم لفهم دقائق هذه الشريعة وأسرارها، فهم يمحصون ويدققون، ويقعدون القواعد ويؤصلون الأصول، ويدفعون عن شرع الله تعالى ويكافحون، لتبقى شريعة صافية نقية، مصونة كما أرادها: {وإنه لكتاب عزيز* لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: ٤١، ٤٢]. هذه الحقيقة الخالدة أبد الآبدين ودهر الداهرين، نسأل الله التوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين.