إحداها: أن الاشتغال بالآليات المنتجة للمضامين التراثية يؤدي إلى اتخاذ موقف تكاملي من التراث، مما يدل على أن التوجه الآلي راسخ رسوخاً في الممارسة التراثية وأنه مانع منعاً من المفاضلة بين عناصرها المختلفة.
والثانية: أن التداخل الذي يقع بين علمين أصليين يوجب أن يكون العلم الذي يدخل في غيره أكثر العلوم حظاً في النسبة إليه وفي إفادته له، وأن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه النسبة والإفادة، فيكون علم الأخلاق عندئذ أنسب العلوم للتداخل مع علم أصول الفقه.
والثالثة: أن دخول علم مأصول في علم منقول يوجب أن يكون العلم المأصول أنسب العلوم الأصلية له، استشكالاً واستدلالاً، وأن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه المناسبة الاستشكالية والاستدلالية، فيكون علم الكلام حينئذ أنسب العلوم للتداخل مع الإلهيات.
وأما نتائج التكامل التقريبي، فهي أربع:
أولاها: أن المجال التداولي الإسلامي العربي ينبني على أصول لغوية وعقدية ومعرفية تضبطها قواعد تقوم بوظائف تداولية مخصوصة، وتؤدي مخالفتها إلى آفات تداولية تختلف درجة ضررها باختلاف أنواع هذه القواعد وعددها.
والثانية: أن تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي العربي يوجب تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة، فتأخذ بالاختصار في العبارة مكان التطويل، وبتشغيل المعقتد بدل تعطيله، وبتهوين الفكرة بدل تهويلها.
والثالثة: أن تقريب علم المنطق يوجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل عبارته راسخة في الاستعمال العادي، وأدلته مستخرجة من النصوص الشرعية، ونتائجه موصولة بأسباب التطبيق النافع للغير نفعه للذات.
والرابعة: أن تقريب علم الأخلاق يوجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل مفاهيمه موصلة بالمدلولات اللغوية المستعملة، وأحكامه مستمدة من الأحكام الأخلاقية المبثوثة في الشرع، ويجعل هذه المفاهيم والأحكام جميعاً تدخل حيز التحقيق النافع في الآجل نفعه في العاجل.
وبفضل هذه النتائج التي توصلنا إليها، نكون قد طرقنا آفاقاً في الممارسة التقويمية للتراث تحمل على الاهتمام بكلية التراث وجمعية دوائره من غير حذف ولا استثناء، كما تجدد الاعتبار لجوانب من الممارسة التراثية تعرضت للتشنيع الباطل، وتحيي النظر في جوانب منها تعرضت للإهمال الفاحش، فضلاً عن أنها تفتح باب استئناف عطاء التراث من غير انتحال آليات منقولة تنزل عليه إنزالاً.
والراجح أن يتخذ عطاء التراث مسالك مخصوصة غير المسالك التي تتبعها الآليات المستحدثة المنقولة؛ فقد يتطلب التقيد بالعمل الحي حيث تتطلب هذه الآليات الاكتفاء بالنظر المجرد، وقد يستلزم منفعة الغير حيث تقتصر هي على منفعة الذات، وقد يشترط المنفعة الآجلة حيث تنحصر هي في المنفعة العاجلة؛ ولا تقل مسالك التراث في العطاء عن المسالك المنقولة استيفاء لمقتضيات العقل والعلم، إن لم تعل عليها علواً؛ فعقل التراث عقل واسع يجمع، إلى النظر في الأسباب، النظر في المقاصد، وعلمه علم نافع يجمع، إلى النظر في الأسباب والمقاصد، العمل بها وفق ما يفيد الغير ويفيد الآجل، بينما عقل الآليات المنقولة عقل ضيق يقطع الأسباب عن مقاصدها، وعلمها علم مشبوه، لا يوجب العمل ويحتمل الضرر؛ وشتان ما بين العقلين وما بين العلمين!