ومما ينبغي ملاحظته في هذه الغزوة أن الجيش الإسلامي لم يخل بعض أفراده من رواسب الوثنية لحداثة عهدهم بالجاهلية، فقد حن بعضهم لجاهليته حيث طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، وهذا الصنف من الناس من جملة الجيش الذي خرج لحرب المشركين، كما كان في الجيش الإسلامي أيضا الطلقاء والأعراب الجفاة وبعض المغموزين في إسلامهم، وقد سمح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، جميعا أن يخرجوا معه مجاهدين.
والنتيجة التي يخلص منها الباحث إذا تأمل هذا الموقف أنه لا مانع أن يكون في جيوش المسلمين بعض ضعفاء الإيمان مع وجوب العمل على تقوية إيمانهم وتعليمهم بحكمة وصبر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، واجه جفاء الأعراب وسؤال السائلين له أن يجعل لهم ذات أنواط وبعض الأخبار التي كانت تنقل إليه من بعض المغموزين، واجه كل ذلك بحلم وصبر وحكمة عظيمة، يجب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فيها، كما أنه صلى الله عليه وسلم تحمل بخلقه العظيم وشجاعته النادرة بعض النيات الخبيثة التي كانت تحاول اغتياله كما يتضح ذلك في موقفه من شيبة بن عثمان وما آل إليه أمر شيبة حيث صار جنديا من جنود الإسلام وعد فيمن ثبت يوم حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان الهدف من خروجه إلى غزوة حنين أن يجد من رسول صلى الله عليه وسلم، غرة فيقتله ثأرا بأبيه كما حدث هو عن نفسه. وقد اتهم صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك بعدم العدالة وصبر على ذلك القول الجائر وأعدل يا محمد فإنك لم تعدل" وقال لقائله: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" وهو في ذلك يقتدى بمن سبقه من الأنبياء الذين صبروا على الأذى فقد قال في هذا الموقف "رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وقد امتثل صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى له {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(٩٠) سورة الأنعام، ولقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم كل تلك المواقف الحرجة بما حباه الله به من حكمة وشجاعة وصبر وخلق عظيم، فحري بالدعاة إلى الله أن يتمثلوا هذه المواقف ويأخذوا منها القدوة الحسنة لهم في حياتهم العملية، وهذا من الدروس العظيمة التي تقدمها لنا سيرته العطرة المليئة بمثل هذه النماذج العالية في حسم المواقف وعلاج أمراض القلوب ومواجهة النفسيات المختلفة. ولا أدل على ذلك من الأسلوب الذي قسم به صلى الله عليه وسلم غنائم هذه الغزوة فقد منح أولئك المتطلعين إلى حطام الدنيا وأعطاهم عطايا عظيمة جعلتهم يطلقون عبارات الشكر والثناء ويعترفون صراحة أن هذا العطاء الهائل لا يكون إلا من نبي لا يخشى الفقر، وهم على علم بأن كل بشر عادي ولو كان أكرم الناس يخشى الفقر، وقد صرح بعضهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يعطيه وإنه لأبغض الناس إليه فما يزال يعطيه حتى يصير أحب الناس إليه، وهذه هي النتيجة التي كان يتوخاها صلى الله عليه وسلم من قسم الغنائم على أولئك المغموزين ووكل أهل الإيمان واليقين إلى إيمانهم وثباتهم على الحق كما مر تفصيل ذلك في محله غير أن هذا التقسيم في الأظهر خاص بتلك الغزوة فليس لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرم الجيش الإسلامي المقاتل الغنائم التي غنموها ويعطيها لغيرهم والمسألة خلافية، ولكن هذا هو المذهب الأمثل الذي توصلت إليه في ذلك. ولقد انهال على المدينة المنورة بعد هذه الغزوة الوفود من عرب الجزيرة معلنين إسلامهم، ومن تلك الوفود وفد هوازن ووفد ثقيف وكان ذلك من نتائج هذه المعركة الفاصلة بين الكفر والإيمان، ومن المعلوم أن العرب كانوا ينتظرون نتائج فتح مكة، فلما خضعت قريش للإسلام وهم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وسكان بيت الله الحرام ومصدر التشريع للعرب جميعاً كان ذلك مؤذنا بزوال الشرك وتمكن التوحيد في أرض الجزيرة، والذين لم يخضعوا بعد وغرتهم قوتهم وجموعهم هم قبائل هوازن وثقيف كما سبق، فلما دارت الدائرة عليهم للمسلمين لم يبق أمام العرب جميعا قوة تذكر لمقاومة الإسلام والمسلمين فما بقى أمام الجاهليين إلا أن يفدوا على عاصمة الإسلام المدينة المنورة ليعلنوا إسلامهم أو ليتفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وتعد سنة الوفود نتيجة طبيعية لهذه الغزوة وقد تعنت وفد ثقيف في شروطهم