وربما تبينت الدراسة بهذا العرض صفحة من صفحات التعامل المثالي مع غير المسلمين من أهل الأديان الأخرى، وأن هذا التعامل حقيقة ثابتة، شهدت بها نصوص الوحي، من الكتاب والسنة وشهد بها التاريخ الناصع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده عهد الخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عنهم ـ ومن بعدهم من الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وغيرهم، في شتى أقطار الإسلام، وشهد بهذا الواقع الماثل في كثير من بلاد العالم الإسلامي، حيث تتجاور فيه الجوامع والكنائس، وتسمع صيحات الأذان ودقات النواقيس، وتعيش الأقليات غير المسلمة ناعمة بالأمان والاستقرار والحرية في ممارسة حقوقها الدينية والدنيوية، على حين تعيش الأقليات الإسلامية في كثير من دول آسيا وإفريقيا وأوربا، مضطهدين، لا يسمح لهم أن يقيموا دينا، أو يملكوا دنيا.
وبهذا يسن الإسلام أعدل القوانين في التعامل مع الآخر ولم يكن هذا أمرا نظريا لم يطبق على أرض الواقع، كما هي عليه أغلب المواثيق الدولية التي تنادي بحقوق الإنسان، ولكن دونما نصيب من التطبيق، بل كان واقعا شهد بتطبيقه الجميع من مسلمين وغيرهم عبر العصور.
ومما يناسب ذكره هنا أن هناك من أثار مجموعة من الشبهات التي ظن أنه بتصيدها ثم بترويجها سيطمس الحقائق، ويغيب الوقائع قصدا لتشويه واقع هذا التعامل ضمن قصد تشويه تاريخ الإسلام وإنجازات المسلمين والتشكيك ومتحججين بأحداث وتصرفات جانبية، حسبوها على تاريخ هذا المنهج كما قصر إدراكهم عن فهم مقاصد كثير من النصوص الواردة بشأن هذا الآخر.
ومما تخلص إليه هذه الدراسة هو ضرورة فهم الشرع الشريف، بأصليه القرآن والسنة، وأن لا يفهما بعيدا عن التطبيق الفعلي لنصوصهما، وسيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، بتطبيقه العملي للشرع الحنيف، وسيرة خلفائه الراشدين وصحابته الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ ومن تبع منهجهم من ولاة أمر المسلمين عبر العصور.
ثم يناسب أن أشير هنا، ضمن خاتمة الدراسة إلى أن هناك من يستغل فكرة التسامح هادفا إلى تمييع الدين ومحاولة حل عراه وإطفاء حرارة الإيمان بدعوى التسامح أو التعايش أو التحاور، أو غير ذلك من المصطلحات المستجدة دون إدراك لمفاهيمها.
نعم نحن دعاة تسامح لأن ديننا نفسه يأمر به، ويدعونا إليه ويربينا عليه. ولكن ليس معنى التسامح أن نتنازل عن ديننا إرضاء لأحد كائنا من كان ولكن ليس من التسامح في شيء. إنما هو إعراض عن الدين أو كفر به، إيثارا للمخلوق على الخالق، وللهوى على الحق. ونحن لا نلزم غيرنا بترك دينه، حتى يطالبنا بترك ديننا.
ليس من التسامح أن يطلب من المسلم (تجميد أو تجاهل) أحكام دينه، وشريعة ربه وتعطيل حدوده، وإهدار منهجه للحياة من أجل أن يكون مثالا لتطبيق هذا المبدأ.
ثم إن حضارتنا الإسلامية بما ارتكزت عليه من مبادئ سامية، قابلة لمواصلة السر بثقة واطمئنان لثبوت الثوابت، التي ترتكز عليها هذه الحضارة، بمعنى صلاحيتها لكل زمان ومكان، فإنسانية الإسلام ثابتة، وسماحته مستقرة، وعدالته راسخة، إذا فهي حضارة التوازن والشمول والعطاء، وصدق الله تعالى حينما بين الغاية من إرسال نبينا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ فقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} سورة الأنبياء آية ١٠٧]
ختاما، أرجو أن أكون قد وفقت في تناول موضوع مهم يسلط الضوء على جانب مشرق من الجوانب المضيئة في حضارتنا الإسلامية وأن تكون هذه الدراسة نواة لأطروحات أشمل وأنفع.
والله ولي التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.