للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحاصل أن طلب الرزق كائن من غالب العباد؛ الأنبياء والعلماء والزاهدين، بل لو قال قائل: إنهم كلهم طالبون لرزق الله عز وجل لم يكن بعيداً، فإنهم يسألون من الله عز وجل الأمطار وصلاح الثمار والبركة في الأرزاق، وهذا هو من طلب الرزق وهو كائن من جميع بني آدم، والمتورع منهم يقيد سؤاله بأن يكون ذلك من وجه حلال. والدعاء هو من جملة السعي في تحصيل الرزق وكذلك جميع الأسباب المحصلة له على اختلاف أنواعها وتباين طرقها، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما هو معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم، انظر ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في أيام النبوة فإن كل واحد منهم يتعلق بسبب من أسباب الرزق كائناً ما كان، ومن عجز عن ذلك قبل ما يصل إليه، كأهل الصفة فإن وقوفهم فيها هو من طلب الرزق، وهكذا بعد أيام النبوة فإن الخلفاء الراشدين يجعلون لأنفسهم نصيباً من بيت المال يقوم بما يحتاجون إليه لأنفسهم ولمن يعولون على وجه العدل وعلى طريقة الزهد وهم أزهد العباد في الدنيا وفي الاشتغال بها، كذلك من كان منهم بعد انقضاء خلافة النبوة التي يقول فيها الصادق المصدوق: (الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم يكون ملكاً عضوضاً) (١) فإن هذه المدة انقضت بخلافة الحسن السِّبط رضي الله عنه ثم كانت من بعده ملكاً عضوضاً وفيها- أعني المدة التي بعد انقضاء مدة الخلافة- القيام بحفظ بيضة الإسلام وجهاد الكفار وفتح ما لم يكن قد فتح من الأقطار، وكان الصحابة رضي الله عنهم يقصدون من بيده أمر المسلمين ويطلبون منه مالهم فيه حق من بيوت الأموال التي بيده، وذلك هو من طلب الرزق ويقبلون منه ما يعطيهم من غير كشف عن حقيقة الحال، وهكذا من بعدهم من التابعين. وكان هذا حال خير القرون ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. وكان من أهل هذين القرنين من يلي للقائمين بالأمر الأعمال من قضاء وإمارة على بعض البلاد وإمارة على جيش ولا ينكر هذا منكر ولا يخالف فيه مخالف، وهذا هو نوع من أنواع طلب الرزق وإن كان العمل قربة كالقاضي وأمير جيش الجهاد فإنه لا ينافي ما هو فيه من القربة أخذ ما يحتاج إليه من بيت مال المسلمين، وما زال عمل المسلمين على هذا منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن مع كل ملك من الملوك، فجماعة يلون لهم القضاء، وجماعة يلون لهم الإفتاء، وجماعة يلون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلون لهم إمارة الجيش، وجماعة يدرسون في المدائن الموضوعة لذلك وغالب جراياهم من بيت المال، فإن قلت: قد يكون في الملوك من هو ظالم جائر، قلت: نعم، ولكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم بل ليقضي بين الناس بحكم الله أو يفتي بحكم الله أو يقبض من الرعايا ما أوجبه الله أو يجاهد من يحق جهاده أو يعادي من يحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم ولو أقل قليل وأحقر حقير كان مع ما هو فيه من المنصب مأجوراً أبلغ أجر لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق ويكره الباطل ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه ولا سعى في تقرير ما هو عليه أو تحسينه أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور فهو في عداد الظلمة وفريق الجورة ومن جملة الخونة، وليس كلامنا فيمن كان هكذا إنما كان كلامنا في من قام بما وكل إليه من الأمر الديني غير مشتغل بما هم فيه إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تخفيف ظلم أو تخويف من عاقبته أو وعظ فاعله بما يندفع منه بعض شره.


(١) تقدم في الصفحة (١٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>