تاسعاً: لم يكن العرب المسلمون مجرد نقلة لتراث الغير، بل لقد طبعوا ما نقلوه بما لديهم من علم، وأخضعوه لما لديهم من خلفية إسلامية، فجاء مصقولاً منقحاً، تدرك فيه اللمسات الإسلامية، من حيث التأصيل الإسلامي للعلوم.
ظهر هذا واضحاً جلياً، عندما توجه بعض النقلة المسلمين إلى الثقافة الإغريقية/ اليونانية والهندية والفارسية والمصرية/ القبطية، ينقلون منها مباشرة، ويقفون وقفات علمية دقيقة، عندما يستدعي الأمر الوقوف. يقول يحيى وهيب الجبوري في هذا:(وهكذا كانت حركة الترجمة والتأليف في هذا العصر مزدهرة، وقد ظهرت في الحياة الإسلامية حركة علمية جديدة، طابعها الإسلام، ونبغ فيها علماء، جمعوا بين العلوم الإسلامية النقلية، وبين العلوم العقلية الدخيلة، وصارت لهم شخصيتهم الإسلامية المستقلة). ويقول شحادة الخوري، في هذا السياق:(ولم يكن العرب، في ميدان المعرفة، ناقلين كسالى، بل كانوا ناقلين مبدعين، أعملوا العقل واحتكموا إليه، ولم ينظروا إلى ما أخذوه بوصفه مسلمات وحقائق، بل وضعوا كل ما نقوله تحت حكم البصر والبصيرة). وينقل ما يؤيد ذلك عن أبي بكر الرازي وابن البيطار وجمشيد الكاشي.
كثيراً ما استدعى الأمر الوقوف عند مسائل، ذات مساس بالطبيعة، أو العقيدة، أو العلوم التطبيقية، التي استدعت التمحيص، والخروج من بعض الخرافة التي ضمنت بعض المؤلفات.
هذا جانب يحتاج إلى تأييد، من خلال النظر في المنقول والمترجم مباشرة، وقد عمل على ذلك في مجال طب العيون، خاصة، نشأت الحمارنة، الذي يذكر في أحد أبحاثه المنشورة أن عصر ترجمة الطب من اللغة الإغريقية (اليونانية) إلى اللغة العربية لم يكن (مظهراً لسلوك منفعل، بل كان العلماء فيه فاعلين بكل معنى الكلمة. فقد وضعوا كل الحقائق التي ترجموها على محك العقل، فقبلوا معظمها، ولكنهم عارضوا بعضها، ونقدوا بعضها الآخر. ولم يؤثر ذلك على مكانة أساتذتهم الإغريق في نفوسهم).
يستدعي هذا مزيداً من التركيز على هذه الإطلاقة، التي ربما تأخذ شكل الفرضية، هنا، حتى يتم فحصها، وعرضها على الواقع.
عاشراً: أثبتت ظاهرة النقل والترجمة قدرة اللغة العربية على استيعاب المصطلحات، ووقوفها مع المستجدات، وشمولها للعلوم والمعارف والآداب، ومرونتها في احتواء الجديد من المصطلحات المعربة والمنحوتة. يقول محمود فيصل الرفاعي:(من يستعرض بعض مصنفات العلماء، في المرحلتين الأولى والثانية، يرى قوة اللغة العربية العلمية، وتعدد المفردات الجديدة. لقد أصبحت بذلك اللغة العلمية الناضجة التي لم يستطع عالم بعد ذلك الكتابة بغيرها).
حادي عشر: كان المفهوم الشامل للمكتبة موجوداً، في العصور الأولى للإسلام، فلم تكن مجرد خزانة كتب، وإنما تحققت فيها ما يدعو إليه علماء المكتبات والمعلومات، اليوم، من وظائف ومهمات، أهمها، في مجالنا، اللغة والترجمة، بالنقل من اللغة إلى اللغة، وتعليم اللغة الأم، وتعلم اللغات الأخرى، والنسخ (الوراقة)، والتجليد.
ثاني عشر: لابد من القول بضرورة تعلم اللغات الأخرى، لينقل منها وإليها، ولن تقوم حضارة إذا لم يسع المسؤولون عنها، من علماء وولاة، إلى التوكيد على تعلم اللغات الغنية بالإنتاج العلمي والفكري، دون أن يكون ذلك على حساب تعلم اللغة الأم وإتقانها، مما يؤكد على الإلمام باللغة الأم، وهي، هنا، اللغة العربية، ومن ثم الانطلاق.