ونهج أبو الدهب نهج سيده من قبل، فحاول ضم بلاد الشام إلى مصر، وقام من أجل ذلك بحملةٍ على هذا البلد في عام (١١٨٩هـ/١٧٧٥م)، وبعد أن سيطر على غزة والرملة ويافا حاصر عكا، لكنه توفي فجأةً، وأدى موته إلى الإخفاق الثاني لمحاولة بعث الدولة المملوكية.
بعد موت محمد أبو الدهب، تجدد الصراع المملوكي في مصر، وانقسم المماليك إلى قسمين، ترأَّس القسم الأول إسماعيل بك، وتزعم القسم الثاني قائدا أبو الدهب إبراهيم ومراد بك، بالرغم من وجود تنافس بينهما.
وشهدت مصر فترةً من الصراعات الحزبية أدَّت إلى الفوضى والخراب والظلم الذي وقع على الناس، مما دفع الباب العالي إلى تجديد سيطرته على هذا البلد، لكن العثمانيين فشلوا في تحقيق هدفهم، وكان أحد أسباب هذا الفشل مقاومة المماليك.
وأثناء الحملة الفرنسية على مصر في عام (١٢١٣هـ/١٧٩٨م) وقف المماليك ضد الفرنسيين وقاوموهم، إلا أنهم فشلوا في صدِّهم، وهُزِم مُراد بك أمام نابوليون في معركة الأهرام الشهيرة في الواحد والعشرين من شهر تموز عام ١٧٩٨م، ودخل على أثرها القاهرة، ثم آلت إليه السيطرة على البلاد، وفرَّ مراد بك إلى الصعيد، وكذلك فعل شيخ البلد إبراهيم بك.
ولما اضطر نابوليون إلى الخروج من مصر في عام (١٢١٦هـ/١٨٠١م) نتيجة تحالف الباب العالي مع إنكلترا عاد إبراهيم بك إلى حكم البلاد.
كان الانهيار السريع في قوة المماليك في مصر من أهم النتائج السياسية للحملة الفرنسية، فقد تلى جلاء الفرنسيين عن هذا البلد صراعٌ بين الطرفين المملوكي والعثماني هدفه استرداد النفوذ الذي فقده كل طرف.
واستمر في الوقت نفسه استمرار التنافس القديم بين المماليك، فبعد وفاة مراد بك في صعيد مصر في عام (١٢١٦هـ/١٨٠١م) برز نزاع بين خلفائه من جهة وبين إبراهيم بك، كما حدث نزاعٌ آخر سار في اتجاهٍ موازٍ بين اثنين من كبار مماليك مراد بك هما عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي، واختلف هذان الأخيران في تحديد السياسة الخارجية للمماليك، فمال الأول إلى الاستعانة بفرنسا، في حين جَهِدَ الثاني للحصول على حماية إنكلترا، ووجدت على الساحة السياسية قوةً مملوكية ثالثةً بزعامة عثمان بك حسن مالت إلى التعاون مع العثمانيين.
ومهما يكن من أمرٍ، فلم يعد للمماليك آنذاك مجال الصراع المفتوح للإمساك بزمام الأمور في مصر، فلقد احتلت القوات البريطانية والجيش العثماني هذا البلد، وعملت الحكومة العثمانية على ضرب قوة المماليك وإعادة فرض سيطرتها المباشرة على مصر، لكن إنكلترا وقد رأت أن مصلحتها تقضي بإعادة الحكم المملوكي إلى مصر للوقوف في وجه العثمانيين تمهيداً لاحتلال هذا البلد بشكل نهائي، أخذت تشجع هؤلاء على الاستقلال عن الدولة العثمانية.
ونتيجةً لصلح أميان الذي انعقد في عام (١٢١٧هـ/١٨٠٢م) بين فرنسا وبريطانيا وأسبانيا وهولندا والذي نظم أوضاع أوروبا، انسحبت إنكلترا من مصر وعاد التنافس العثماني المملوكي إلى الظهور.
لكن الأحداث أثبتت أن كلاً منهما عاد أضعف مما كان عليه مادياً ومعنوياً، وعجزت العناصر التي كانت تشكل كلا الفريقين عن التكاتف للدفاع عن كيانهما، فكان انهيارهما جميعاً.
ومع بروز محمد علي باشا قائد الفرقة الألبانية في الجيش العثماني واختياره لمنصب الولاية، دخلت مصر في طور سياسي جديد، فقد عمل هذا الوالي على إضعاف نفوذ الطرفين العثماني والمملوكي.
وخشي من سيطرة المماليك، فاتخذ لنفسه الحيطة، وصمَّم على التخلّص منهم، فأوقع بزعمائهم في عام (١٢٢٦هـ/١٨١١م) بأن دعا البكوات والأمراء إلى وليمة في القلعة، ولما أرادوا الانصراف أُغلقت الأبواب الخارجية، وسُدَّت عليهم مسالك الفرار، وأُطلقت النار عليهم فماتوا جميعاً، ثم اتخذ تدابير أخرى كانت نتيجتها القضاء على بقية المماليك بالقتل أو بالطرد، وهرب عدد منهم إلى بلاد النوبة، ويقال إنهم لقوا حتفهم هناك واندمج العدد القليل الذي بقي منهم في أهل البلاد وصاروا منهم.