٨ـ وفي الباب الثالث ذكرت خلاف العلماء وأقوالهم في تعبد النبي ? قبل بعثته بشرع من قبله من الأنبياء، وبينت أدلة الأقوال وما يرد عليها من نقاش ثم رجحت القول الذي رأيته صواباً، وبينت الفائدة من بحث هذه المسألة وثمرة الخلاف فيها. وخلصت منها الآتي إلى مسألة أهم منها وهي: حكم تعبد النبي ? وأمته بعد البعثة بالشرائع السابقة، فأوضحت أولاً تحرير محل النزاع في المسألة بتقسيمها إلى ما هو متفق عليه بين الشرائع وإلى ما هو مختلف فيه ومثلت للمتفق عليه بأمثلة توضحه. وقسمت المختلف فيه إلى خمسة أقسام وبينت كل قسم منها ببعض الأمثلة ومن ذلك اتضح ما يفهم من كلام بعض العلماء أنه محل النزاع وليس كذلك، وبينت أن محل النزاع هو ما ثبت في شرعنا أنه شرع لمن قبلنا ولم يرد في شرعنا ما يوافقه أو يخالفه وهو القسم الخامس كما نص عليه كثير من الأصوليين، وذكرت خلاف العلماء وأقوالهم فيه مفصلة وبينت ماله حظ من الأدلة والنقاش من الأقوال، وجمعت أدلة كل قول على انفراد وناقشتها وبينت ما يستقيم الاستدلال به منها على محل النزاع وما لا يستقيم الاستدلال به منها عليه. وخلصت منها واحداً واحِداً إلى النظر في إمكان الجمع بينها وهل بينها منافاة أو لا؟ وهل الخلاف حقيقي أو صوري، وقد تبين لي بعد النظر والتدقيق في جميع الأدلة للأقوال المختلفة أن لا منافاة بينها وأن الخلاف أشبه ما يكون بالخلاف اللفظي وذكرت أنه على تقدير أن الخلاف حقيقي فأنا أختار القول بحجية شرع من قبلنا الوارد به شرعنا من غير نسخ. وسقت الأدلة على ذلك.
وحققت في مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة في العمل بشرع من قبلنا الوارد به شرعنا من غير نسخ، وبينت من أقوال أصحابهم أنه لا يخلو مذهب منها في الجملة من العمل بشرع من قبلنا الوارد به شرعنا من غير نسخ قل ذلك أو كثر في بعضها دون بعض. وفي نهاية هذا الباب أوضحت حكم العمل بالقسم الرابع الذي سبق في تحرير محل النزاع وهو ما يسمى بالإسرائيليات. فبينت المراد منها وحكم التحدث بها وسؤال أهل الكتاب عن شيء من أخبارهم وحكم العمل بها، وبينت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحذرون من الإسرائيليات ومن سؤال أهل الكتاب عن شيء من أخبارهم وينهون عن التحدث بها، وأنه إن وجد من بعضهم شيء فهو قليل جداً, لأنهم أقل الناس تحديثاً بها. وبينت أن ما قيل عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه كان يحدث بالإسرائيليات ليس كما قيل عنه، وأن أبا هريرة رضي الله عنه وهو أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله ?لم يكن يروي الإسرائيليات ولا يأخذ عن أهل الكتاب شيئاً.
٩ـ أما الباب الرابع فقد خصصته للتطبيق، حيث ذكرت فيه ما أمكنني ذكره من القواعد والأحكام التشريعية التي قيل إنها مأخوذة من شرع من قبلنا الوارد به شرعنا. وحرصت أن تكون شاملة لأكثر أبواب الفقه، فذكرت مجموعة من المسائل المتعلقة في العبادات. منها ما هو في التوحيد مما قد ينافي كماله ومنها ما هو في الطهارة، ومنها ما هو في الصلاة، ومنها ما هو في الزكاة، ومنها ما هو في الصيام، ومنها ما هو في الحج، ومنها ما هو في الجهاد. ومجموعة أخرى من المسائل في المعاملات، ومنها ما هو في البيع والشراء. ومنها ما هو في القرض، ومنها ما هو في الجعالة ومنها ما هو في الإجارة، ومنها ما هو في الهبة وغير ذلك. ومجموعة أخرى في النكاح. في أبواب منه متفرقة. ومجموعة في الحدود والقصاص والدية. ومجموعة أخرى في الأيمان والنذور ومجموعة أخرى في الحكم والقضاء ومجموعة في مواضيع مختلفة من أبواب متفرقة.
هذا وقد بينت بعد كل مسألة ما يشهد لها في شرعنا بالموافقة أو المخالفة وذكرت حكمها في شرعنا مكتفياً بذكر الخلاف مع القول الذي يظهر لي رجحانه ووجه الترجيح في المسائل الخلافية من غير استقصاء المذاهب وأدلتها على التفصيل.
وانتهيت من تلك المسائل كلها إلى أنه لم يوجد منها شيء إلا وله شاهد في شرعنا بالموافقة أو المخالفة جملة أو تفصيلاً من قريب أو بعيد مما يؤكد أن الخلاف في شرع من قبلنا الوارد به شرعنا من غير نسخ، خلاف لفظي يكاد أن لا يوجد له محل. ولا أدعي أنني استقصيت جميع ما ورد به شرعنا من شرائع السابقين فهي كثيرة، لكنها محاولة بذلت فيها ما أمكنني بذلة. والله أسأل أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.