٥ - سلك ابن المنير في تعامله مع الزمخشري من خلال تعقيباته على كلامه مسلك العدل والإنصاف في العموم، فقد أثنى عليه وأشار إلى إمامته ورسوخ قدمه في علم البلاغة والبيان في غير ما موضع، وقد أفرد بعض تعقيباته فقط للإشادة به والإشارة إلى بعض نكاته المستحسنة وتنبيهاته اللطيفة، ومع ذلك فإنه كثيراً ما يغلظ له في القول، بل وحتى إلى الدرجة التي يصفه فيها بالضلال أو الشرك، وهو – أي ابن المنير – قد أشار إلى ذلك معتذراً لنفسه بأنه يفعل ذلك من باب المقابلة بالمثل، مثلاً بمثل سواء بسواء؛ لأنه قد نصب نفسه مدافعاً عن مذهب الأشاعرة كما أن الزمخشري داعية إلى مذهب الاعتزال.
٦ - ابن المنير في تعقيباته على الزمخشري يخالفه في العموم الأغلب، وقد يوافقه أحياناً، وقد يوافقه في بعض كلامه ويخالفه في البعض الآخر، (والمرجع أو الضابط عنده في الموافقة والمخالفة إنما هو قواعد مذهبه الأشعري التي بنى عليها عقائده وأفكاره، وقد يترك بعض المواضع التي يتفق فيها معه الزمخشري دون تنبيه وهي مواضع قليلة، وهو لم يستوعب التنبيه على المخالفة في كل مواردها في الكتاب، بل يكتفي بالتنبيه عليها في عدة مواضع تقل في بعض المسائل وتكثر في بعضها الآخر. وقد يمر على بعض المواضع المشابهة دون تنبيه اكتفاء بما قد نبه إليه من مواضع.
٧ - محاسن وفوائد الكتابين كثيرة نبهت إلى بعض منها هنا وأشرت إليه أيضاً في المقدمة؛ لكن في الوقت نفسه هناك بعض المآخذ عليهما.
فمن المآخذ على كتاب الكشاف أن مؤلفه قد شحنه بالأفكار الاعتزالية وتكلف حمل معاني آيات القرآن الكريم لتوافق تلك الأفكار، كما أن مؤلفه ليست له دراية بعلم الحديث، وقد وقعت له بسبب ذلك بعض الأغلاط الشنيعة من إنكاره لبعض الأحاديث المتفق عليها أو روايته لها بصيغة التمريض الدالة على الضعف أو الوقيعة في رواتها، لمجرد كونهم رووا ما يخالف مذهبه، حتى ولو كان الراوي من الصحابة الكرام.
وقد وقع له – أي الزمخشري – في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم من الأنبياء كآدم، ونوح، شطحات شنيعة سجلها عليه العلماء واعتبرت من أسوأ المآخذ التي أخذت على الكتاب ومؤلفه، وكان لها أثر في الحط من قدرهما.
أما كتاب الانتصاف فالمأخذ الرئيس عليه الذي قلل من قميته وفائدته؛ أن مؤلفه لم ينطلق في تعقيباته على الزمخشري من منهج الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، المبني على أساس اعتماد الأدلة من الكتاب والسنة كمصدرين أساسين تستمد منهما أمور العقيدة. وتقديمهما عند الاستدلال على مسائلها، وجعل العقل تبعاً لها في ذلك ببيان أنه إن صح النقل فلا يمكن أن يعارضه العقل أو يحكم بما يخالفه.
لا بل إن ابن المنير إنما اعتمد في ذلك مذهب الأشاعرة المبني على أساس تقديم العقل على النقل، واعتماد العقل طريقاً أساسياً لمعرفة مسائل الاعتقاد، بل ووحيداً في أغلبها وجعله الحاكم على ما يقبل أو يرد من الأدلة النقلية إذا احتاج إلى الاستدلال بها. ولذلك فقد اتسمت ردوده على الزمخشري في أغلب الأحيان بالطابع العقلي الصرف، فاختفت فيها دلائل الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
ورغم أن مذهب الأشاعرة الذي ينتحله ابن المنير وجعله عمدته في الرد على الزمخشري أخف ابتداعاً من المعتزلة وأقرب إلى أهل الحق منهم؛ إلا أنه لا يمكن أن يكون ممثلاً لمذهب أهل السنة والجماعة كما يزعمه الأشاعرة ويدعونه لأنفسهم، فإن نقاط الاختلاف بين المذهبين (أهل السنة والأشاعرة) أكثر من نقاط الاتفاق، بل إن نقاط الاختلاف بينهما تمس جوانب وركائز أساسية في العقيدة لا يمكن التغاضي عنها أو الجمع بين المذهبين فيها إلا برجوع الطرف المتجافي عن الحق وهم الأشاعرة إلى الحق وأهل الحق، وهذا مالم يحصل منهم بعد إلى الآن، نسأل الله لنا ولهم الهداية إلى الحق والثبات عليه حتى نلقاه إنه سميع بصير.
وبعد فإني لا أقول إني قد أعطيت هذا البحث كل ما يستحقه، وما قمت به على كل حال جهد مقل معترف بالعجز والتقصير، وفوق ذلك هو جهد بشري لابد أن يعرض له الخطأ ويعتوره التقصير، مهما حاول الإنسان تدارك ذلك.
لكن حسبي في ذلك وعزائي أني بذلت قصارى جهدي في أن يظهر بالشكل المرضي، فما كان فيه من صواب فهو من الله وما كان فيه من خطأ وتقصير فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك وأسأله العون والسداد والتوفيق لصالح الأعمال، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.