وأما بخصوص اتباعهم المنهج العقلي في نقد الأحاديث فقد سبق الكلام عليه في النقطة السابقة، هذا إلى جانب كون هذا المعيار العقلي الذي انتهجوه ليس منضبطاً؛ بل هو نسبي إضافي، يتفاوت فيه الناس، وما هذا حاله لا يصلح أن يكون معياراً.
٢١) أن أصحاب المدرسة العقلية الحديثة قد تأثروا بالتحسين والتقبيح العقليين في نظرتهم للإجماع، وذلك من خلال ما يلي:
أ) التشكيك في الإجماع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي أو التصريح بإنكار حجيته.
وهذا مخالف للنصوص الشرعية وإجماع السلف، وإنكار لأصل من أصول التشريع.
ب) الدعوة إلى الاجتهاد فيما أجمع عليه السابقون كنتيجة لإنكار الإجماع أصلاً.
وهذا كما سبق مخالف لما جاءت به النصوص الشرعية واتفق عليه السلف من تحريم مخالفة الإجماع.
ج) إحداث مفاهيم جديدة للإجماع؛ كالاستفتاء أو التصويت، وما يترتب على ذلك من توسيع دائرة الإجماع، وإدخال من ليس من أهل الإجماع فيه.
وهذا مخالف لمعنى الإجماع الأصولي المعروف، وليس منه في شيء.
٢٢) أن أصحاب المدرسة العقلية الحديثة قد تأثروا بالتحسين والتقبيح العقليين في نظرتهم للمصالح، وذلك من خلال ما يلي:
أ) التوسع في العمل بالمصالح من دون ضوابط أو قيود. وهذا مخالف لما عليه الأئمة من السلف؛ من أن العمل بالمصالح المرسلة لابد أن يكون وفق ضوابط وشروط، أهمها ما يلي:
١ - أن تكون من المصالح الدنيوية الواقعة في قسم العادات والمعاملات، مما يعقل معناه لنا.
٢ - أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع في الجملة، ولا تنافي أصلاً من أصوله ولا قاعدة من قواعده العامة.
٣ - أن لا تعارض نصاً من كتاب أو سنة ولا إجماعاً ولا قياساً صحيحاً.
ب) تقديم العمل بالمصالح على النصوص الشرعية. وهو أمر مخالف للشروط التي وضعها العلماء للعمل بالمصالح المرسلة كما سبق، ثم إنه لا يتصور في النصوص الشرعية - التي إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية - أن تخالف ما جاءت لأجله.
٢٣) أن أصحاب المدرسة العقلية قد تأثروا بالتحسين والتقبيح العقليين في نظرتهم للاجتهاد، وذلك من خلال ما يلي:
أ) زعمهم أن الاجتهاد لا ينحصر في الفروع؛ بل لابد أن يكون في الأصول أيضاً. وهذا يؤدي إلى التحلل من الشريعة والتفلُّت من أصولها.
ب) دعوتهم إلى إلغاء اجتهادات الفقهاء السابقين وعدم الاعتداد بها، واتهامهم الفقهاء بالعزلة والبعد عن الحياة العامة. وهذه الدعوة تهدف إلى فكرة الاجتهاد المفتوح التي لا تبالي بإجماع ولا خلاف، وفي ذلك خطر الخروج عن إجماع المسلمين.
وبخصوص ما ذكروه عن فقهاء السلف فهو افتراء محض؛ يكذِّبه التاريخ وسير أولئك الأعلام.
ج) تقسيمهم التشريع إلى ثابت ومتغير. وهذا يهدف إلى إلغاء كثير من أحكام الشرع وتأويل الأدلة؛ لتكون تابعة لواقع بعض المجتمعات في العصر الحاضر، ثم إنَّ ما ثبت حكمه بنص القرآن والسنة فهو ثابت لا يمكن تغييره إلا بنص من القرآن أو السنة، وهذا ممتنع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما استدلوا به في هذا الشأن فمردُّه إلى تغير صورة المسألة، أو تغير الاجتهاد في مَدْرَك حكمها.
د) دعوتهم إلى الاجتهاد الطليق من كل قيد أو شرط. وهذه الدعوة يلزم منها لوازم باطلة؛ منها: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في كل مجال ولكل أحد، ولا شك أن للاجتهاد مجالاته المعروفة، ولابد أن يكون القائم به مجتهداً مستجمعاً لشروط الاجتهاد المعروفة.
هـ) زعمهم أن النسخ يمكن أن يكون بِيد المجتهد، يستخدمه إذا رأى قصور أحكام الشريعة عن تحقيق المصالح. وهذا كلام بيِّن البطلان؛ إذ فيه اتهام الشريعة بعدم تحقيق مصالح العباد في بعض أحكامها، ومن ثَم تحتاج إلى من يسد ذلك بنسخ ما فيه قصور من النصوص.
هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن النسخ لا يكون إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة، ولا يحل لأحد أن ينسخ من عند نفسه بلا دليل.
و) ترجيحهم في مسائل الشرع بحسب ما يناسب الشخص أو المجتمع؛ دون اعتبار بالبحث والنظر في الأدلة وفق قواعد الترجيح المعروفة. وهذا - بلا شك - تحكيم الهوى والتشهي، يرفضه من له عقل سليم وفطرة مستقيمة.
ثانياً: التوصيات:
١) القيام بدراسة علمية مفصلة في موضوع تخريج الأصول على الأصول تتناول قسماً تأصيلياً، وقسماً تطبيقياً في مشروع علمي يتبناه قسم أصول الفقه، ويشتمل في آحاده على استقراء الأصول المتعلقة بالعقيدة أو المتعلقة بأصول الفقه، والتي أثر الخلاف فيها في جملة من المسائل الأصولية، وتحرير الكلام في ذلك.
٢) القيام بدراسة نقدية جادة لموضوع الاجتهاد لدى أصحاب المدرسة العقلية الحديثة، وذلك بحصر كل ما كتبوه في ذلك وتقويمه حسب منهج علمي شرعي، يقبل الحق ويرد الباطل.
وذلك لأهمية هذا الموضوع بصفة خاصة، ولعدم وجود دراسة وافية لهذا الموضوع في حدود علمي.