" ويقول شيخ الإسلام " ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح
المعقول , وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب وقد قال تعالى {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}
ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى , ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله من الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب ... "()
ويقول أيضا " وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل "()
ويشرح شيخ الإسلام سبب كونهم أعلم وأحكم فيقول " وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفيهم أحق بالجهل والحشو فنبين ذلك بالقياس المعقول من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول كما قال الله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
فأخبر أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق ثم قال {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك فنقول من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات
الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجود والذوق ونحو ذلك وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها فهم أكمل الناس عقلا وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا وهذا هو للمسلمين بالسنة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل فكل من استقرأ أحوال العالم والأعمال وجد المسلمين أحد وأسد عقلا وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه قال الله تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} أهـ ()
وبهذا يتبين لك أيها القارئ فضل علم السلف على الخلف نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحشرنا في زمرتهم وأن يعفينا وإخواننا ومن نحب مضلات الفتن وزيغ الحكماء وانحراف الفرق والأهواء ونسأله سبحانه هداية من ضل من هذه الأمة والتأليف بين قلوب المؤمنين على الحق والهدى والدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم