٥ - ثم تبين أن المضامين الحقيقية التي ألبست ثياباً إسلامية هي في الحقيقة فلسفات علمانية غربية مستهكلة دنيوية وإنسية وماركسية وهومينوطيقية قد هجرت في ديارها، ولم يجن أهلها منها إلا الضياع والقلق ومزيداً من اليأس والإحباط.
٦ - انعكس ذلك على المرجعية التي يجب أن تحكم الحياة فأصبح المرجع والحاكم هو الإنسان والواقع، أما القرآن فهو مجرد غطاء للتبرير، عليه أن يبارك الواقع، ويرضخ له وإلا فإنه يمكن أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
٧ - ولذلك لم يعد للقرآن معنى في الفكرانية العلمانية لأنه أصبح يقول كل شيء دون أن يقول شيئاً، يقول كل شيء يريده الإنسان، ويسكت عن كل شيء لا يريده الإنسان، ولم تعد له القداسة التي يكنها له المسلمون، فأصبح يدعو إلى النفور، ويمارس التعمية (والإيديولوجية) والخداع والمخاتلة، ويوصم بالتناقض والتفكك -والتبعثر.
٨ - ولمزيد من الوفاء العلماني لجذوره الغربية الدنيوية اجتر كل ما قاله المبشرون من أمثال فندر في كتابه ميزان الحق والمستشرقون من أمثال نولدكه وبلاشير بخصوص تاريخ القرآن وجمعه وكتابته، فردد كل ما قاله هؤلاء من طعن في سلامة القرآن عن التحريف، وإشاعة للأخبار الكاذبة التي وضعها الزنادقة، وروجها المبطلون، وهو في كل ذلك يعبر عن أشد أنواع الاستلاب، ويعاني من أخطر جراثيم الافتراس.
أما واجبنا نحن المسلمين فعلينا أن نقارع الخصم بنفس أسلحته، وعلينا أن لا نكتفي بالإدانة والرفض والتسفيه، لأن ذلك إذا لم يقترن بالحجة والبرهان يكون ضرره أكثر من نفعه، ولابد من قراءة مصادر العلمانيين ومراجعهم والإطلاع على أحدث ما يتبجحون به، مع العلم بأن أحدث ما يتبجحون به مرفوض في بيئته، ومهجور في عقر داره. لقد قلت كما قال الدكتور عبد العزيز حمودة بأن العلمانيين أو الحداثيين يحسنون فن العرض والتغليف، يساعدهم على ذلك الإطلاع على اللغات الأجنبية التي تثري في نفس الوقت لغتهم العربية بسبب تفاعل اللغات، وتراكم التراكيب والكلمات، وتيسر النحت والاشتقاق الذي يتأتي بكثرة المتقابلات والمترادفات الحديثة والجديدة، والتي تغري الجيل الجديد، وتعزر ثقته بقدرة الخطاب العلماني على الإبداع والتجديد.
إننا في عصر تكون الغلبة فيه لمن يحسن الدعاية والإعلان في الغالب، وعلينا أن لا نزدري ذلك وأن نوليه كثيراً من الاهتمام إلى جانب ما نملكه من جوهر نفيس، وتراث عزيز، وحضارة باسقة. إن علماءنا السالفين لم يستهينوا بالأفكار الوافدة، والفلسفات الغازية، بل تفاعلوا معها وأتقنوها حتى بزوا أهلها، وفاقوا أعلامها، فنازلوهم عند ذلك منازلة الأقران، وصاولوهم مصاولة الشجعان فلم تمض سنوات قليلة حتى هضمت العلوم المختلفة ثم أعيد بناؤها من جديد بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام ومثله العليا.
ونحن اليوم بحاجة إلى أن نمسك بالأفكار الجديدة من منابعها، ونتابع ما آلت إليه تطبيقاتها في واقعها، لكي نتمكن من رؤية حقيقية لأضرارها ومنافعها، فإذا قال العلمانيون: اللسانيات أو الهرمينوطيقا أو الإنتربولوجيا أو غير ذلك، فلابد من وضع هذه الدعوات في عين الاعتبار، والبحث عن أصولها، وقراءة أعلامها، وسنكتشف دائماً أن الحق لا يعدم من أنصار، وأن الباطل دائماً ينهار، لأن الحق دائماً أبلج، والباطل دائماً لجلج. وهذه هي وصيتي الأولى.