٧ - أن من أسباب التقدير ما له جهتان، بحيث يؤدي من إحداهما إلى نوع من التقدير، ويؤدي من الأخرى إلى نوع آخر مناقض له، ومن هذا: أن ترتب المشقة له جهتان؛ فقد يكون بالنظر إلى اعتبار الشيء موجوداً، وقد يكون بالنظر إلى اعتبار الشيء معدوماً، وكل من هاتين الجهتين له أثره في إحداث نوع من أنواع التقدير، فالأولى تتعلق بتقدير الموجود معدوماً، والثانية تتعلق بتقدير المعدوم موجوداً، بل إن صور ترتب المشقة الناتجة عن أسباب المشقة المعلومة شرعاً من عموم البلوى، والجهل، والنسيان، والإكراه، يختلف أثرها في التقدير كما مر معنا.
وهذا يخلص بنا إلى القول: إن من أسباب التقدير ما يختلف أثره بناء على اختلاف نوع الحادثة؛ هل هي من المأمورات، أو من المنهيات، وهل هي مما يطلب جلبه، أو مما يطلب دفعه.
ولذلك حصل الاختلاف في أثر عموم البلوى باعتباره صورة من صور ترتب المشقة، فإن كانت الحادثة مما يعسر الاحتراز منها فإن ترتب المشقة بناء على عموم البلوى بها يعد سبباً في تقدير الموجود معدوماً، وإن كانت الحادثة مما يعسر الاستغناء عنها فإن ترتب المشقة بناء على عموم البلوى بها يعد سبباً في تقدير المعدوم موجوداً.
وأما الجهل والنسيان والإكراه فحصل الاختلاف في أثرها في التقدير بناء على الاختلاف في نوع الحادثة؛ هل هي من قبيل المأمورات أو من قبيل المنهيات، ومثل هذا حصول الاختلاف في أثر الاحتياط؛ بين أن يكون احتياطاً للشيء أو احتياطاً من الشيء، ولذلك لا يصح في نظري إطلاق القول في بعض أسباب التقدير بأنها سبب للتقدير مطلقاً دون تقييد لها بحالة معينة منها.
٨ - أن للتقدير أثراً مباشراً في جملة من مسائل أصول الفقه وقواعده، وهذا الأثر متفاوت؛ إذ قد يكون ظاهراً ومؤثراً تأثيراً مباشراً في بعض المواضع، وقد يكون تأثيره أقل من ذلك في مواضع أخرى، وهذا الأمر من الظهور بحيث لا يحتاج إلى تمثيل؛ فبتأمل ما تم عرضه من أثر للتقدير في التقعيد الأصولي والفقهي يتقرر ما ذكرناه آنفاً، على أن المتأمل لهذا الأثر يجد أن تأثير التقدير في التقعيد الفقهي أكثر وضوحاً منه في التقعيد الأصولي.
٩ - تقرر لي من خلال البحث في أثر التقدير الشرعي في الاستحسان أن الاستحسان قد ينبني على الاحتياط بشقيه المذكورين هنا، أي على الاحتياط للشيء، والاحتياط من الشيء، ووضحت ذلك بالأمثلة، وفي هذا التقرير إضافة على أمر كان متقرراً عند عامة العلماء في الجملة من أن الاستحسان مبناه على التيسير والتوسعة ورفع الحرج فحسب.
١٠ - أن من آثار التقدير الشرعي في التقعيد ما يعد من صور التقدير كما في قاعدة الرفض، وقاعدة الانعطاف، وقاعدة الظهور والانكشاف، ومنه ما يكون قاعدة مستقلة وللتقدير أثر فيه، وأمثلة هذا ما مر بحثه في الباب الثالث.
١١ - أنه قد ثبت أن لإعمال التقدير الشرعي أثراً في دفع كثير من الإشكالات الفقهية، سواء أكان الإشكال في إقامة دليل وتوجيهه أم في دفع اعتراض ومناقشته، وما ذكر في هذه الرسالة إنما هو نزر يسير مما هو واقع في التفريعات الفقهية.
وأما ما يمكن أن أختم به من توصيات، فمنها:
١ - أنه ينبغي للباحثين في أصول الفقه الاهتمام بكتب القواعد الفقهية في مختلف المذاهب؛ وذلك لما في هذه المؤلفات من الإضاءات السديدة والإشارات المفيدة في كثير من موضوعات أصول الفقه، والتي ربما لا توجد في كتب أصول الفقه أنفسها.
٢ - أنه ينبغي للباحثين في علوم الشريعة الاهتمام بكتب الفقه ذات المنحى التقعيدي والاتجاه لها استخراجاً لقواعدها، وتمحيصاً لتعليلاتها، واسترشاداً بتطبيقاتها.
٣ - أنه ينبغي إعادة النظر في جملة من القواعد التي يفهم من إطلاقها ما لا يحتمله واقعها الشرعي، ومن تلك القواعد قاعدة (تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة)؛ إذ لا زالت هذه القاعدة بحاجة إلى مزيد نظر وتأمل في ضوابطها، وتتبع لواقعها الفقهي.