سادساً: إن من أعظم المخاطر الفكرية التي تسلح بها أعداء الإسلام لغزو المسلمين فكرة تقسيم الدين إلى ظاهر وباطن، حيث أدرك هؤلاء أن أصول العقيدة الإسلامية وأحكامها إنما عرضت في إطار ألفاظ وكلمات تدل عليها، وأن صلة المسلمين بماضيهم ومنابعهم إنما تبقى ببقاء هذه المصطلحات دالةً على معانيها الشرعية، فمتى انصرمت هذه الصلة بين الكلمات وبين المعاني، وأصبحت لا تدل على معانيها الخاصة، ومفهوماتها المحددة تسرب الشك والاختلاف إليها، وأصبحت هذه الأمة فريسةً سهلةً لكل دعوة مهما بعدت عن العقيدة الصحيحة، حيث يكون التأويل الفاسد هو المطلُّ برأسه في كل مناسبة.
سابعاً: إن السلف الصالح لم يألوا جهداً في الرد على أهل البدع في تأويلاتهم منذ نشأة الفرق، فأصدروا الفتاوى الجادة في حقهم، وتكلَّموا في جرحهم وبيان أحوالهم نصيحةً للأمة، وصنَّفوا في ذلك المصنفات النافعة، فظهر من خلال البحث أنهم رحمهم الله سلكوا في ردودهم منهجين:
١ - منهج التأصيل: ويكون بعرض العقيدة الصحيحة بأدلتها، مع التركيز على ما فيه نقض لمعتقدات المبتدعة ومناهجهم.
٢ - منهج المناظرة، أعني الرد المباشر، ويكون بذكر شبهات المبتدعة ثم الرد عليها، فأحصيت من مؤلفاتهم في الرد على الجهمية والمعتزلة فقط منذ بداية القرن الثالث حتى منتصف القرن السادس الهجري سبعين كتاباً بين مطبوع وغير مطبوع.
ثامناً: لقد قمتُ بعقد مقارنات بين بعض الفرق المتقاربة فكان من نتائج تلك المقارنات أن الأشاعرة والماتريدية لا يختلفون في الأصول الكلامية التي بنوا عليها التأويل، والتبعيض في الصفات إثباتاً وتأويلاً، كما ظهر أن الرافضة والباطنية وجهان لعملة واحدة، وأن أصول الصوفية في اكتساب المعارف وفي التأويل مستقاة من أصول الفلاسفة الإشراقيين وأصول الباطنية لاسيما في قضية الظاهر والباطن.
تاسعاً: لقد زعم كثيرٌ من الباحثين المعاصرين أن الجهمية والمعتزلة من الفرق التي انقرضت، ورأزو بالتالي عدم جدوى مناقشة آرائهم فيما يتعلق بالتأويل وغيره، فذكرتُ بعض أقوال هؤلاء، وأبطلتُ مزاعمهم بذكر ما يدل على وجودهم ووجود من يعتنق أفكارهم، ويسلك مناهجهم، ويدافع عنهم بكل حرارة، كما أشرتُ إلى افتقار كثيرٍ من هؤلاء الباحثين إلى منهج سليم في التصور والاعتقاد.
عاشراً: لقد اعتمد كثيرٌ من الباحثين على كتاب (الفوائد المشوق) المنسوب لابن القيم في نسبة القول بالمجاز إلى هذا الإمام في المرحلة الأولى أو الأخيرة من حياته، فتمكنتُ –بحمد الله- من تحقيق المسألة بما لا يدع مجالاً للشك في أن الكتاب إنما هو مقدمة ابن النقيب في تفسيره، واستندت في ذلك إلى أقوال بعض العلماء المحققين.
توصية
١ - لقد كانت جهود ابن تيمية رحمه الله في الرد على العقلانيين من الفلاسفة والمناطقة من نوعٍ فريد، حيث خبر أصولهم وأغراضهم، ومذاهبهم التي ترجع إليها مقالاتهم، وعقلياتهم، فانتقد أصولهم وقوانينهم، وهجم على مسلَّماتهم وبراهينهم العقلية التي سموها قطعيات فطعن فيها وبين وجوه ضعفها، فظهر لي من خلال تأمل عمله في هذا الباب أن جهوده في الرد على الفلاسفة والمناطقة لا تزال تنتظر من يبرزها، ويجليها، لكن ينتظر ممن يتصدَّى لذلك أن يكون متمكناً في الشرعيات، ملمَّاً بالعقليات، هادئ البال، رصين التصور، قوي العارضة.
٢ - لقد أتاح لي العمل في هذا البحث فرصة الاطلاع على الكثير من كتب أهل الزيغ والضلال –ولا حول ولا قوة إلا بالله- فظهر لي أن هناك عدداً هائلاً من الأحاديث المتيقن وضعها، وعدداً كبيراً يظهر عليها طابع الوضع يستدل بها أهل البدع والضلالات على تقرير عقائدهم في جميع المناحي والنحل الفلسفية والكلامية، والباطنية، وفي التصوف والرفض وغيرها، وتبين لي أن مما روَّج مذاهب هؤلاء وجود هذه الأخبار المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن غير العارف إذا وقف في كتاب على قول منسوبٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك الخبر في تقرير عقيدة ما أو منهجٍ ما فسرعان ما يُسلِّم به ويذعن ويعتقد.
من هنا أيقنت أن هناك حاجةً ماسةً إلى جمع هذه الأخبار، وتصنيفها على أبواب الاعتقاد، وذكر من استدل بها على تقرير العقائد الفاسدة، وتخريجها تخريجاً علمياً ليعرف حقها من باطلها، ولا يخفى أن هذا العمل يحتاج إلى باحث لديه صبر على قراءة أكبر عدد ممكن من هذه الكتب، ومعرفةٍ بأصول التخريج، واطلاع بعقائد السلف، وانحرافات المبتدعة ومناهجهم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.