وقد ذهبت طوائف أخرى كثيرة من أهل الكلام والإرجاء والتجهم من الجهمية والمعتزلة والخوارج والأشاعرة والماتريدية وغيرهم إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقولهم هذا باطل شرعاً معلوم الفساد بالاضطرار من دين الله وليس عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا عقل، بل إن صريح الكتاب وصحيح السنة والعقل بخلافه وعلى الضد له تماماً.
ثم وإن كان من القائلين بهذا القول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فإن هذا لا يسوغ هذه العقيدة، بل إنه يعد هفوة منه رحمه الله وزلة قدم يرجى أن تغتفر في بحر علمه وفضله ولاسيما وقد جاء عنه ما يشعر برجوعه عن هذا القول وهو الحري به غفر الله له، ولهذا لا يجوز متابعته في ذلك لأن أقوال العلماء – كما هو متقرر – لا يحتج بها على الأدلة الشرعية بل يحتج لها بالأدلة الشرعية، فما كان منها مخالفاً لما جاء في الشرع طرح جانباً وتمسك فيما جاء بالشرع فقط وهذا أمر أوصى به الأئمة جميعهم أبو حنيفة وغيره.
ولئن كان بعض الأحناف غلا في متابعة أبي حنيفة في غلطه هذا وتعصب له فيه تعصباً مقيتاً، فإن من الأحناف من اعتدل في الأمر ووزن الأمور بميزان الشرع فترحم على أبي حنيفة وترك متابعته في خطئه، وعد متابعته في ذلك من سنن العوام.
لكن من العجيب حقاً أن بعض الذاهبين لهذا القول والمتعصبين له، لم يرعوا عن أمور ذميمة وخلال قبيحة، ركبوها تحسيناً منهم لباطلهم وترويجاً له، فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة، وحرفوا نصوصاً شرعية عديدة بتأويلاتٍ مستكرهة بعيدة عن اللغة والشرع معاً، وضللوا وكفروا وبدَّعوا أهل الحق والاستقامة، فهؤلاء لا حيلة فيهم إلا كشف باطلهم وتعرية ضلالهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد، ولهذا كانت مواقف علماء الإسلام وأئمة السنة من مثل هؤلاء قوية صارمة تتسم بالحزم وعدم التساهل، فأوصوا بهجرهم والبعد عنهم والحذر من باطلهم، صيانة للعقيدة، وحفاظاً على السنة.
بينما نبتت في عصورنا المتأخرة وأزماننا الحاضرة مواقف مهزوزة وأراء مهلهلة، تدعو إلى السكوت عن هؤلاء وعدم كشف باطلهم للتفرغ فقط للعدو الخارجي لدعوته أو صد عدوانه، فنجم عن هذه المواقف أن رفع أهل الباطل عقيرتهم، وأظهروا بدعهم، ونادوا بها في كل مجلس وناد، فاختلطت الأمور وتغيرت المفاهيم، وبات المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصارت البدعة سنة والسنة بدعة، فضاع لكثير من المسلمين رأس مالهم وسبيل نجاتهم فضلاً عن أن تتحقق الأرباح لهم.
بل وادعى بعض أهل هذه المواقف أن عقائد المرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم ماتت وانقرضت ولم تعد موجودة في هذا الزمان، والحق أن هذا القول يعد تلبيساً من قائله وتعمية منه عن الأمور البادية لكل مبصر، والظاهرة لكل متبصر، بل إن أهل هذه الأهواء في زماننا هذا – ولست مبالغاً في ذلك – أكثر منهم عن ذي قبل، فالبدع الأولى لا زالت موروثة، والضلالات القديمة لا زالت محروثة، غير أنه أضيف إليها في هذا الزمان أنواع أخرى من البدع والمحدثات، والله المستعان.
ثم إني قد أوضحت في هذا البحث نشوء الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وقررت أن الخلاف الذي حصل فيها حقيقي جوهري، وليس لفظياً صورياً فقط، لأن قول المخالفين في هذه المسألة مضاد تماماً لقول أهل السنة والجماعة المستمد من الكتاب والسنة، إضافة إلى ما جره قولهم من بدع عديدة وضلالات متنوعة.