العاشر: أنه يحدد مراد المتصرفين، فيجري الشارع أحكام تصرفاتهم على ما يفيده العرف كما في العقود والطلاق واليمين.
الحادي عشر: أن يكون قرينة تظهر الحق من الباطل والحلال من الحرام، وأكثر ما يكون ذلك في الإفتاء والقضاء، كتحكيمه في اللقطة وعيوب المبيع.
الثاني عشر: اتساع المجاميع الفقهية، فإنها لم تقتصر على أحكام النوازل التي فصل فيها القرآن والسنة، بل دونت فيها أحكام العادات التي جرت في الأمم المسلمة على مر العصور، فإنه لما فتحت الممالك وانتشر الإسلام، عرضت على المجتهدين عادات مدنية وفارسية ورمانية ومصرية وإفريقية في مختلف مسائل الفقه، كالمهر وجهاز الزوجين وبيع الثمار، وما يدخل في المبيع تبعاً وما لا يدخل، والاستصناع والإجارة على نسيج الثياب وخياطتها وصبغها، والشروط في العقود وصيغتها ولعبة الشطرنج لم تكن هذه العادات معروفة في عهد الرسالة، وكانت محل اجتهاد المجتهدين وإفتاء المفتين، ثم جمعت في المؤلفات الفقهية على أنها آثار وفتاوى يجب العمل بها.
الكلمة الأخيرة: هي: هل يكون العرف سبباً من أسباب الخلاف بين الفقهاء؟.
لم يعده من أسباب الخلاف البَطَلْيُوسي في كتابه الإنصاف. ولا ابن تيمية في رسالته رفع الملام. وذكر الشاطبي في الموافقات أنه لا ينبغي إن يعد اختلافاً بين الأئمة إلا ما كان خلافاً على الحقيقة، فما كان ظاهره الخلاف والواقع الوفاق فحكاية الخلاف فيه خطأ. ونحن كثيراً ما نرى العرف منشأ للاختلاف بين الأئمة لاختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، كاختلاف الإمام وصاحبيه في تزكية الشهود، وتحقق الإكراه من غير سلطان، واعتبار الكفاءة في الحرف، ولا يكون هذا خلافاً على الحقيقة، إذ لو شاهد كل إمام ما شاهد آخر لقال بما قال. فأخذاً بكلام الشاطبي ينبغي أن لا يعد العرف من أسباب الخلاف. والظاهر أن فقهاءنا على هذا الرأي، إذ كثيراً ما يقولون في المسائل التي تختلف الآراء فيها لاختلاف العادات: وهذا اختلاف في عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. اللهم إلا في بعض مسائل يكون العرف فيها من أسباب الخلاف على الحقيقة، كاختلاف الشافعية في أن المعروف كالمشروط، فإنه ترتب عليه خلاف حقيقي بينهم في بعض الفروع كما تقدم في ص١٧٠.
وبعد. فهذه نظرية العرف والعادة عند الفقهاء، مؤيدة بأصول الدين، معضدة بكلام الثقات من علماء المسلمين، أعرضها على الناس في وضوح ليطالعوا فيها سمو الفقه وسماحته وعدالته، ويقفوا بها عليه مبلغ ما وصل إليه فقهاء المسلمين من نيل التفكير وحصافة الرأي وحسن الاستنباط، ويؤمنوا بأن شريعة السماء هي وحدها التي يجب أن تتصدر للحكم بين الناس، وهي وحدها التي يجب أن تستمد منها التشريعات المدبرة لأمر الأفراد والجماعات.
وهذا آخر ما أمكنني الوصول إليه في بحث هذا الموضوع بعد قراءات واسعة وبحوث شاقة، في الحق أني مستقل هذه النتيجة الضئيلة معها. ولكن إن كان الله قد وفقني إلى الصواب فقليل الصواب كثير. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على رسوله العظيم.