للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما البدعة غير المكفرة فهي كل بدعةٍ لم تقدح في أصل الإيمان، ولم تبطل ما تواتر من الشرع وكان معلوماً من الدين بالضرورة، لكنها ضلال وزيغٌ عن الحق وعدولٌ عن السنة، وهي في ذلك على درجات:

منها: قول بعض الرافضة: إن علياً إمام، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، والأئمة من ولده يقومون مقامه في ذلك.

ومنها: تأخير الصلوات عن أوقاتها والمداومة على ذلك.

ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (ومما ينبغي -أيضاً- أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) (١).

التفريق بين الكفر وقائله:

وهذا من الأصول العظيمة التي امتاز بها أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق، أنهم يفرقون بين المقالة وصاحبها، فالمقالة قد تكون كفراً أو فسقاً وصاحبها ليس بكافر ولا فاسق، كما أنها تكون إيماناً وتوحيداً وصاحبها ليس بمؤمن ولا موحد.

ولكي توافق مقالة الكفر صاحبها، ويوصف بها، لابد من تحقيق شرائط وانتفاء موانع:

أما الشروط، فمنها (٢):

١ - أن يكون صريح قوله الكفر، عن اختيار وتسليم.

٢ - أن يكون لازم قوله الكفر، وعرض عليه فالتزمه، أما إذا لم يلتزمه، بل ردَّه وأنكره فليس بكافر.

٣ - أن تقوم الحجة عليه ويتبينها؛ لقوله تعالى: (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: ١٥) وقوله: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء: ١١٥).

وأما الموانع، فمنها (٣):

١ - أن يكون حديث عهد بالإسلام.

٢ - أن يكون قد نشأ بباديةٍ بعيدةٍ، ويدخل معه من لم يجد إلا علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم.

٣ - أن يكون مغيب العقل بجنون ونحوه.

٤ - أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسنة، أو بلغته ولم تثبت عنده -إن كانت سنة- أو لم يتمكن من فهمها.

٥ - بلغته وثبتت -عنده- وفهمها، ولكن قام عنده عارض -من رأي أو ذوق- أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً. ويدخل معه المجتهد المخطئ، فإن الله يغفر له خطأه ويثيبه على اجتهاده إن كان حسن النيّة.

وعليه، فلا يجوز الحكم على معينٍ بالكفر إلا بعد تحقيق شروطه وانتفاء موانعه، وما أثر عن بعض السلف من إطلاق التكفير واللعن فهذا يبقى على إطلاقه وعمومه، ولا يتعين في حق إنسان إلا بدليل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: (فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذي لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثيرٌ من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية؛ من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكفار ...


(١) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٣/ ٣٤٨.
(٢) انظر: فتح المغيث للسخاوي ١/ ٣٣٤، ومجموع فتاوى ابن تيمية ١٢/ ٥٠٤.
(٣) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٣/ ١٧٩، ٢٣١، ٢٣/ ٣٤٥، ٣٤٦، ٧/ ٢١٧، ٢١٨، وطريق الهجرتين لابن القيم ص: ٤١٢، ٤١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>