للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صدر المجلس، وكان أول من بايعه، وكان المهتدي ورعا، زاهدا، صوّاما، لم تعرف له زلّة، وكان سهل الحجاب، كريم الطبع، يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه، ويجلس للمظالم، ويلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده، وكان من العدل على جانب عظيم.

حكي أن رجلا من الرّملة تظلّم إلى المهتدي بالله من عاملها، فأمر بإنصافه، وكتب إليه كتابا بخطه، وختمه بيده، وسلّمه إلى الرجل، وهو يدعو له، فشاهد الرجل من رحمة المهتدي وبره بالرعية، وتوليته أمورهم بنفسه ما لم ير مثله، فاهتز ووقع مغشيا عليه، والمهتدي يعاينه، فلما أفاق قال له المهتدي: ما شأنك، أبقيت لك حاجة؟ قال: لا والله، ولكني ما رجوت أن أعيش حتّى أرى مثل هذا العدل، فقال له المهتدي: كم أنفقت منذ خرجت من بلدك؟ فقال: أنفقت عشرين دينارا، فقال المهتدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، كان الواجب علينا أن ننصفك وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكلفة، وإذا أنفقت ذلك فهذه خمسون دينارا من بيت المال، فإني لا أملك مالا، فخذها لنفقتك واجعلنا في حل من تعبك وتأخّر حقك، فبكى الرجل حتّى غشي عليه ثانيا، وبهت بعض الناس، وبكى بعضهم، فقال أحد الجماعة: أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى [١] :

حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزّاهر

لا يقبل الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [٢]

فقال المهتدي: أمّا أنت فأحسن الله جزاءك، وأما أنا فما رويت هذا الشعر ولا سمعت به، ولكني أذكر قول الله عزّ وجل:


[١] تقدم التعريف به في حاشية الصفحة (٢١٨) .
[٢] البيتان في «ديوانه» ص (١٤١) من قصيدة مؤلفة من (٣٨) بيتا. وروايتهما فيه:
حكمتمو بي فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر

<<  <  ج: ص:  >  >>