ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة؛ لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الطريق الوسطى؛ وهي أن يأخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك وإن كان مشتهىً؛ فإن إعطاء النفس قدر ما تشتهيه .. عون لها، وقضاء لحقها.
وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج، وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، ويقول: إذا وجدنا .. أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا .. صبرنا صبر الرجال.
ولينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته؛ فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا ولا تفريط في حقوق النفس.
وينبغي أن يتلمح حظ النفس في المشتهى؛ فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير .. فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة .. فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون مذمومًا. راجع مختصر "منهاج القاصدين" لابن قدامة (١٩٤).
وفي "سراج الملوك": أن يهوديًّا رث الهيئة رأى فقيهًا وعليه لباس حسن، فقال: ألستم تروون عن نبيكم: (أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فأين ذلك من حالك وحالي؟ !
وأجابه عن ذلك بأنه إذا متَّ، وصرتَ إلى ما أعد الله لك من العذاب .. علمت أن الدنيا جنة لك، وإذا متُّ أنا، وصرتُ إلى ما أعد الله لي من النعيم .. علمت أن الدنيا كانت سجنًا لي، كذا في "الأبي على مسلم"(٧/ ٢٨٥) انتهى من "الإنجاز".
قال القرطبي: وإنما كانت الدنيا كذلك؛ لأن المؤمن فيها مقيد بقيود