منها: أن يترك الإنسان أسباب الدنيا رأسًا، وإنما المقصود منها: ألا يؤثرها على الآخرة، وأن يكون شوقه ورغبته إلى الله تعالى أكثر؛ أي: إلى ما أعد لعباده في الآخرة من النعيم المقيم أكثر وأقوى من رغبته إلى متاع الدنيا الفانية.
وقد تكلم العلماء على حقيقة الدنيا ومعرفة المذموم منها والمحمود قديمًا وحديثًا، وفذلكة الكلام ما ذكره العلامة ابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاج القاصدين" لابن الجوزي، وأصله للإمام الغزالي رحمه الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب، وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكل ما تاقت .. منعوها؛ ظنًّا منهم أن هذا هو الزهد المراد؛ جهلًا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك؛ لقلة علمهم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة، فنقول:
اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وكل ذلك علف الراحة لبدنه السائر إلى الله عز وجل، وأنه لا يبقى إلا بهذه المصالح؛ كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به .. مُدِح، ومن أخذ منها فوق الحاجة على وجه الشره .. وقع في الذم؛ فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة، فيفوت المقصود، ويصير بمنزلة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها أنواع الثياب وينسى أن الرفقة قد سارت؛ فإنه يبقى في البادية فريسةً للسباع هو وناقته.