ولكن احتمالُ النسخ إذا تأيَّدَ بقرائن قوية يَكْفِي لإبطال الاستدلال بما جاء في الروايات مخالفًا للأصولِ الكلية والرواياتِ المشهورة، وتُوجد ها هنا قرائنُ تُقوِّي احتمالَ النسخ.
فمنها: أن قصةَ العرنيين وقعت سنةَ ست؛ كما قدمنا، وحديثَ نجاسة البول مروي عن أبي هريرة؛ كما سيأتي، وأن أبا هريرة أسلم سنة سبع، ثم من المعلوم المشاهدِ في الأحاديث أنَّ الإحكام قد انتقلَتْ في الأنجاس من السهولةِ إلى الصعوبة، فهناك أشياء كثيرة اعتُبرت طاهرةً غيرَ مفسِدة للصلاة في مبدأ الإسلام، ثم جاء الحكْمُ بنجاستها؛ فمن جملتها ما أخرجه البخاري في رقم (٢٤٠) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قصةِ وَضْعِ أبي جهل سلا جزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُصل ساجدٌ، وقد ثبَت أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْطَع صلاتَه، بل اسْتَمرَّ فيها؛ كما ذكره الحافظُ في "الفتح"(١/ ٣٥١).
وادَّعى ابن حزم أن هذا الحديث منسوخ بما روي في نجاسة النَّجْوِ والدمِ، فهذه القرائن مما يُقوّي احتمالَ النسخ، وعند هذا الاحتمال القويِّ لا يَتِمُّ الاستدلالُ بحديث الباب على طهارة البول الذي ورد في نجاستِه أحاديث كثيرةٌ.
والوجه الثالث: في الاعتذارِ عن حديث الباب أنه يحتمل أن الأمر بشُرْب الألبان واستنشاقِ الأبوال، وإنما عَطفَ الأبوال على الألبان بطريق التضمين، والتضمينُ أن يُعطف معمولُ عامل محذوف على معمول عامل مذكور؛ كقوله:(علفتها تبنًا وماءً باردًا)، والمراد علفتها تبنًا وسقَيْتُها ماء باردًا، وقد أَوْضَحه ابن هشام في "مغني اللبيب" في أوائل الباب الخامس من الجزء الثاني.
ويؤيده ما ورد في بعض طرق الحديث عند النسائي في "سننه"(٢/ ١٦٧)