صافي:- يعنى الخنازير التي كانت في حلقه- فيتلف عن قرب ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جعفر، فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في هذا السخاء الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثل ما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب ويبذر ارتفاع الدنيا ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العبّاس أصلا. فقلت: يا مولاي يبقيك الله حتى ينشأ في حياة منك، ويصير كهلا في أيامك، ويتأدب بآدابك، ويتخلق بخلقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: احفظ عني ما أقوله، فإنه كما قلت. قال: ومكث يومه مهموما، وضرب الدهر ضربته ومات المعتضد وولى المكتفي، فلم يطل عمره ومات.
وولى المقتدر. فكانت الصورة كما قاله المعتضد بعينها، فكنت كلما وقفت على رأس المعتضد وهو يشرب ورأيته قد دعا بالأموال فأخرجت إليه، وحلت البدر، وجعل يفرقها على الجواري والنساء ويلعب بها، ويمحقها ويهبها، ذكرت مولاي المعتضد وبكيت. قال وقال صافي: كنت يوما واقفا على رأس المعتضد فقال: هاتوا فلانا الطّيبي- خادم يلي خزانة الطّيب- فأحضر فقال له: كم عندك من الغالية؟ فقال نيف وثلاثون حبا صينيا مما عمله عدة من الخلفاء، قال: فأيها أطيب؟ قال: ما عمله الواثق، قال أحضرنيه، فأحضره حبا عظيما يحمله خدم عدة بدهق ومثقلة، ففتح فإذا بغالية قد ابيضت من التعشيب وجمدت من العتق، في نهاية الذكاء، فأعجبت المعتضد وأهوى بيده إلى حوالي عنق الحب، فأخذ من لطاخته شيئا يسيرا من غير أن يشعث رأس الحب، وجعله في لحيته وقال: ما تسمح نفسي بتطريق التشعيب على هذا الحب، شيلوه، فرفع، ومضت الأيام، فجلس المكتفي للشرب يوما، وهو خليفة وأنا قائم على رأسه، فطلب غالية، فاستدعى الخادم وسأله عن الغوالي، فأخبره بمثل ما كان أخبر به أباه فاستدعى غالية الواثق، فجاءه بالحب بعينه ففتح فاستطابه وقال أخرجوا منه قليلا. فأخرج منه مقدار ثلاثين- أو أربعين مثقالا- فاستعمل منه في الحال ما أراده، ودعا بعتيدة له فجعل الباقي فيها ليستعمله على الأيام، وأمر بالحب فختم بحضرته ورفع، ومضت الأيام وولي المقتدر الخلافة، وجلس مع الجواري يشرب يوما كنت على رأسه، فأراد أن يتطيب فاستدعى الخادم وسأله، فأخبره بمثل أخبر به أباه وأخاه.