لا يمكن أحدا أن يدخل منه إلّا راكعا ليدخل القاضي منه على تلك الحال فيكون عوضا من تكفيره بين يديه. فلما وضع سريره في ذلك الموضع أمر بإدخال القاضي من الباب، فسار حتى وصل إلى المكان، فلما رآه تفكر فيه ثم فطن بالقصة فأدار ظهره، وحنا رأسه راكعا ودخل من الباب وهو يمشي إلى خلفه قد استقبل الملك بدبره حتى صار بين يديه، ثم رفع رأسه ونصب ظهره، وأدار وجهه حينئذ إلى الملك! فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في نفسه.
سمعت أبا الفرج محمّد بن عمران الخلّال يقول: كان ورد القاضي أبي بكر محمّد بن الطّيّب في كل ليلة عشرين ترويحه، ما يتركها في حضر ولا سفر. قال:
وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده وضع الدواة بين يديه وكتب خمسا وثلاثين ورقة تصنيفا من حفظه، وكان يذكر أن كتبه بالمداد أسهل عليه من الكتب بالحبر، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلته وأمره بقراءته عليه.
وأملى عليه الزيادات فيه.
قال أبو الفرج: وسمعت أبا بكر الخوارزميّ يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس.
أخبرنا عليّ بن محمّد بن الحسن الحربي المالكيّ قال: كان القاضي أبو بكر الأشعريّ يهم بأن يختصر ما يصنفه فلا يقدر على ذلك لسعة علمه، وكثرة حفظه.
قال: وما صنف أحد خلافا إلّا احتاج أن يطالع كتب المخالفين غير القاضي أبي بكر، فإن جميع ما كان يذكر خلاف الناس فيه صنفه من حفظه.
حدّثنا القاضي أبو حامد أحمد بن محمّد بن أبي عمرو الاستوائي قال: كان أبو محمّد اليافعي يقول: لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس لوجب أن يدفع لأبي بكر الأشعريّ، حدّثني عبد الصّمد بن سلامة المقرئ، عن القاضي أبي عبد الله محمّد بن عبد الله البيضاويّ قال: رأيت في المنام كأني دخلت مسجدي الذي أدرس فيه فرأيت رجلا جالسا في المحراب وآخر يقرأ عليه ويتلو تلاوة لا شيء أحسن منها. فقلت: من هذا القارئ ومن الذي يقرأ عليه؟ فقيل لي: أما الجالس في المحراب فهو رسول الله ﷺ، وأما القارئ عليه فهو أبو بكر الأشعريّ يدرس عليه الشريعة.