وهذه المشكلة قديمة بدأت من حين بدأ احتكاك المسلمين بالثقافة اليونانية، حيث تصدت طائفة من أبناء المسلمين ـ ممن لم يدرك اكتفاء التصور المعرفي الإسلامي عن سواه ـ للربط بين نصوص الوحي والعقل المعرفي اليوناني، فكانت النتيجة أنهم ـ كما قال ابن تيمية رحمه الله ـ "لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا". وهؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك لم ينضج في أذهانهم التصور المعرفي الإسلامي، فكانوا ينظرون إلى حقائق الإسلام ونصوص الوحي باعتبارها قضايا جزئية، وينظرون إلى الثقافة اليونانية ممثلة في منطق أرسطو باعتبارها منهجاً متكاملاً، وكانوا يريدون فهم القضايا الجزئية (حقائق الإسلام عندهم) وإعادة تركيبها وفق هذا المنهج المتكامل (المنطق الأرسطي)، ولهذا اختلت عندهم الوحدة المنهجية في التصور الإسلامي، بل لم يعد لها وجود.
وهذا الخطأ ليس خطأ جزئياً يمكن تجاوزه، بل هو خطأ جوهري يتمثل في خطأ المنهج ذاته، واختلال قواعده، وتصحيحه لا يكون إلا بإعادة بناء العقل المعرفي عنده مرة أخرى.
ونحن في علم النفس تواجهنا هذه المعضلة مرة أخرى وبصورة أخطر بسبب القطيعة بيننا وبين المعارف الإسلامية. ومن صور هذه المعضلة أنك تجد بعض المشتغلين بالتأصيل ينطلق من النظرية النفسية الغربية ويحاول ملء فراغاتها ببعض المفاهيم الإسلامية أو تحليتها وتزيينها بها. والخطأ هنا خطير، لأن مَن هذا شأنه لا تمثل الحقائق والمفاهيم الإسلامية عنده كلاً متكاملاً، وإنما هي مجرد جزئيات fragments تحتاج إلى نظرية كلية تجمع بينها وتؤلف بين أجزائها. وقد ذكرت أمثلة لهذا الانحراف في الفصلين الأول والثالث من هذا الكتاب.
إن مَن هذا شأنه عاجز عن التأصيل، لأن التأصيل هو إعادة بناء علم النفس وفق التصور المعرفي الإسلامي، وهو عاجز عن البناء وعاجز عن إدراك التصور المعرفي الإسلامي. وهو مستسلم للمباني القائمة في علم النفس راض بها لا يشعر بما فيها من خلل، ولهذا فهو لا يريد مبارحتها. وكل عمله في التأصيل هو التنقل بين "الجزئيات الإسلامية" سواء كانت آية أو حديثاً أو قولاً مأثوراً ليختار منها ما يوافق المبنى الذي يسكنه. تماماً كما يفعل أحدنا عندما يذهب إلى متجر أدوات البناء ليشتري لمنزله باباً أو قفلاً أو دهاناً، أترى أحدنا عندما يفعل ذلك يظن أن الباب أو القفل الذي اشتراه هو بديل عن منزله! كلا! بل هو راض عن منزله، وإنما يريد بما اشتراه أن يجعل الحياة فيه أكثر راحة، وكذلك يفعل هذا المؤصل الذي يزين النظرية النفسية الغربية ببعض الآيات والأحاديث والأقوال المأثورة، هو يريد أن يرفع الحرج عن نفسه بإضافة بعض البهارات الإسلامية، أي إنه يريد أن يجعل حياته مع هذه النظرية النفسية الغربية أكثر راحة من خلال الاستشهاد بنص إسلامي في سياق النظرية.
وربما يقول البعض إنك بهذا ترفض علم النفس القائم، وأقول: كلا، إنني لا أرفض التجارب البشرية التي ثبتت منفعتها والمعارف البشرية التي ثبت صوابها، وإنما أريد أن أبني المبنى الذي يخصني ويفي بحاجتي وفطرتي التي فطرها الله عز وجل، إنني أريد أن أقيم المبنى الذي تتحقق من خلاله العبودية لله عز وجل وأعلن من خلاله هويتي الإسلامية. وهذا المبنى الذي أريد أن أقيمه يسع كل من يريد السلام والطمأنينة حتى لو لم يكن مسلماً، ولكن المباني التي أقامها علم النفس المعاصر لا تتسع لمسلم أبداً.