ومن عجب أن بعض الطلاب يسأل حينما يتحدث متحدث عن مفهوم إسلامي نفسي قائلاً:"ولكن هذا المفهوم يا دكتور خاص بالمسلمين". تأمل كيف أصبح المفهوم الغربي عند هذا الطالب هو القاعدة والأنموذج، والمفهوم الإسلامي هو الاستثناء الذي يحتاج إلى تبرير. وكنت أقول لهؤلاء الطلاب إن المسلم هو مثال الإنسان الكامل، والكامل يتسع لما دونه، بينما ما دونه لا يتسع له. ونحن حينما نتحدث عن مفهوم نفسي إسلامي فنحن نتحدث عن مفهوم متوافق مع الفطرة، والفطرة واحدة في المسلم والكافر إلا أن الكافر سترها بكفره.
أعود مرة أخرى إلى العلاقة بين الوحي والعلم وأقول: إن التصور المعرفي الإسلامي مكتف بآلياته لا يحتاج إلى تكميل من مناهج بشرية أخرى، والخلل إنما يأتي من الجهل بمنهج المعرفة الإسلامي، فيلجأ إلى سد جهله بما يعرفه من مناهج أرضية ولسان حاله أو مقاله يقول: ?إن أريد إلا إحساناً وتوفيقاً?، ولكن أنى له ذلك.
وإن مما ينبغي أن تتجه له أنظار المعنيين بالتأصيل الإسلامي من أجل سد هذا الخلل دراسة أدوات المنهج الإسلامي سواء ما يختص منها بالنظر في دلالة النص وهو علم أصول الفقه، أو ما يختص منها بورود النص وهو علم مصطلح الحديث، فيدرك الدارس على الأقل مظان الصحيح والضعيف والموضوع، ويمكن الاستفادة من البرامج الحاسوبية في هذا المجال. وكذلك يدرس المعني بالتأصيل أدوات المنهج الإسلامي في الجمع بين النقل والعقل.
ثالثاً: النظرية والحقيقة العلمية:
علم النفس المعاصر يتكون من نظريات، وهي تستند إلى مسلّمات عند أصحابها قد يخالفهم فيها غيرهم، وإلى حقائق يتفق معهم فيها غيرهم. والخلاف في النظرية ممكن لأنها مجرد تفسير للعلاقة بين مجموعة من الظاهرات أو الحقائق، ومَن قَبِلَ مسلّمات النظرية ربما يقبل النظرية ذاتها، وربما اختار نظرية أخرى يرى أنها أقدر على التفسير. أما الخلاف في الحقيقة العلمية فخاطئ حتماً ولا يُعذر فيه من اتضحت له أدلتها. والمسلّمات ربما كانت قضايا افتراضية فتكون مثل النظرية، وربما كانت حقائق علمية فيكون حكمها حكم الحقيقة العلمية. وبعض الدارسين يخلط بين هذه القضايا الثلاث، وتختلط عنده المسلّمة والنظرية بالحقيقة العلمية فيسبغ على الجميع حكماً واحداً هو حكم الحقيقة العلمية. وهذا يفسد أكثر مما يصلح، ويفشل في مشروع التأصيل لأنه يحاول الجمع بين المتناقضات فلا يستطيع. ويبلغ السوء عنده مبلغه والفشل قمته عندما يحاول أن يفسر آيات القرآن ونصوص السنة بنظريات ثبت فشلها وتخلى عنها علم النفس.
والذي ينبغي لدارسي علم النفس التفرقة بين هذه المفاهيم الثلاثة، وتحقيق القول في الحقائق العلمية، ويتأكد هذا الأمر في حق المعني بالتأصيل لئلا يرد حقاً أو يقرر باطلاً.
ومفهوم النظرية والحقيقة العلمية ناقشته في جميع فصول الكتاب ما عدا الرابع منها.
رابعاً: الفطرة:
مفهوم الفطرة بمثابة حجر الزاوية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس، فالعناية به، وتحقيق القول فيه، وجمع ما ورد فيه من نصوص، وموازنته بالدراسات النفسية الحديثة عن الطبيعة النفسية للإنسان، وموازنته بنظريات الشخصية المعاصرة ـ عمل ذلك كله ـ مما يفتح أبواباً مغلقة للتأصيل الإسلامي لعلم النفس.
دراسة الفطرة يجب أن تتناولها في جانبين: الأول: الجانب الوصفي، فيصف الباحث مكونات الفطرة وطبيعتها ويحقق القول في طبيعتها، وعمدته في ذلك ما ورد من نصوص في القرآن والسنة عنها. والجانب الثاني: الجانب التفاعلي، فيصف الباحث طبيعة تفاعل الفطرة مع أحوال الفرد النفسية، ويصف أيضاً طبيعة التفاعل بين عناصر الفطرة نفسها، وكذلك علاقة الفطرة بحال السواء والانحراف والصحة والمرض.