وبهذا يتبين أن مراعاة العرف، فيه تخفيف وتيسير، ومخالفته، توقع في المشقة ولكن العرف إنما يعمل به في حدود الشروط المعتبر له، لأن الأخذ بالعرف دون قيد ولا شرط يؤدي إلى التلاعب بالأحكام الشرعية.
٨ – إن الرخص ليست هي الأحكام الأصلية، وأنها تهدف إلى رفع الحرج عن هذه الأمة، وأقرب تعريف لها هو تعريف البيضاوي وهو قوله: (هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر).
٩ – إن قصد المشقة نفسها في التكليف لا يصح، لأنه مخالف لقصد الشارع، وما كان مخالفا لقصد الشارع فهو باطل، أما قصد العمل الذي من لوازمه المشقة كمن يختار الجهاد على نوافل العبادات فهذا قصد صحيح، لأنه في هذه الحالة لم يقصد المشقة نفسها وإنما قصد العمل الذي من لوازمه المشقة.
أما دخول المكلف في المشقة باختياره، فإن كانت معتادة فللمكلف الدخول فيها باختياره، ولكن ليس القصد من الشارع نفس المشقة بل القصد المصلحة الراجحة.
وإن لم تكن معتادة، فإن كانت المشقة حاصلة بسبب المكلف واختياره والفعل لا يقتضيها بأصله، فهذا بأصله، فهذا منهي عنه ولا يصح التعبد به.
وإن كان الفعل مقتضيا لها، فهذا هو الذي شرعت الرخص من أجله فإن شاء عمل بالرخصة، وإن لم يعمل بها، فلا يخلو من أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو ماله أو حال من أحواله ضرر يكره بسببه العبادة، فهذا أمر ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش.
أو من أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه الضرر ولكن في العمل مشقة غير معتادة. فهذا موضع لمشروعية الرخصة.
١٠ – تبين أن السبب في رفع المشقة عن المكلفين هو الخوف من الانقطاع عن العبادة أو بغض العبادة أو كراهة التكليف أو الخوف من فساد قد يحصل في عقله أو جسمه أو ماله أو حاله، أو الخوف من التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، فربما كان التوغل في جزء منها يكون شاغلا عنها.
فالنهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع، وإذا كان كذلك، فالنهي يدور مع العلة وجودا وعدما، فإذا وجد ما علل به الشارع، كان النهي موجودا وإذا لم توجد كان النهي مفقودا.
١١ - إن المشاق والشدائد التي يجدها المكلف في طريق قيامه بالعبادة وسائر التكاليف مثاب عليها قل ذلك أم كثر، فإذا تساوت الأفعال في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان إحداهما أشق من الآخر استوت في الأجر لتساويها في الوظائف، وانفرد الشاق عنها بتحمل المشقة، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشقة، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن المشقة ليست مناطا للأجر، بل الأجر على المشقة يأتي بسبب كونها ملازمة للعبادة لا لكونها مقصودة من الشارع إذ ليست شدة العمل ومشقته هي السبيل لتحصيل الأجر بل مناط الأجر هو الامتثال لأمر الشارع.
١٢ – وبالتطبيقات الفقهية على القاعدة تبين أن قاعدة المشقة تجلب التيسير، تحتل جزءا كبيرا في مجال التطبيق على الفروع الفقهية، فتطبيقاتها تأتي على جميع أبواب الفقه، فقلما تجد بابا من أبواب الفقه، إلا وللقاعدة أثر عليه، فما وجدت عزيمة إلا وجد في جانبها رخصة، إلا الشرك والقتل والزنا.
فإذا نظرت إلى أبواب الفقه وبدأتها من كتاب الطهارة وتتبعتها بابا بابا إلى كتاب القضاء، فإنك تدرك أن هذه القاعدة لها نصيب كبير في مجال التطبيق، ولكن أثر القاعدة في العبادات أكثر منه على المعاملات.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه،،،