وقد ذكرتُ أن العلة قد تكون في السند، وقد تكون في المتن، وأوضحت بالأمثلة الكثيرة مدى اهتمام المحدثين بمعرفة العلل في السند، وذلك تمشياً على قاعدتهم بالاهتمام بكل ما له صلة بنقد السند.
وهكذا، بذلت جهدي المتواضع للإثبات أن نقاد المحدثين اعتنوا بنقد السند وتمييز صحيحه من سقيمه بجميع الوسائل الممكنة.
٢٣ـ وأما الباب الثاني، فقد بدأته ببحث مطول عن اهتمام المحدثين بنقد المتن وبينت فيه أن النقد عند المحدثين يشمل الراوي والسند والمتن. وأن الاهتمام بنقد المتن بدأ من الصحابة رضي الله عنهم. ومشى عليه التابعون وأتباعهم. واستخرجت أمثلة كثيرة من بطون الكتب لإثبات هذه الحقائق، وللإيضاح بأن المباحث التي تطرق لها مؤلف كتب المصطلح لم تقتصر على مباحث الإسناد، بل إن أبحاثهم دارت في محيط ثنائي مؤلَّف من السند والمتن، وأنهم وضعوا قواعد في الجرح تُنبئ عن النقد الخفي للمتن، وجئت بتلك القواعد. وشرحت أهمية قانون الاعتبار والمعارضة لنقد المتن، وأن الصحابة والتابعين ومن جاؤوا بعدهم من أئمة الحديث طبقوا هذا القانون، وأن كثيراً من الاصطلاحات التي أطلقها المحدثون على الرواة، إن هي إلاَّ تسميات لنتائج مقارنات ومعارضات بين مرويات الراوي ومرويات غيره. ثم أطلقوا على الراوي لفظاً يحدد مقدار ضبطه ودرجة مروياته. وهذا يعني أنهم درسوا المتون وقارنوها بمتون أخرى.
٢٤ـ وبيَّنت كذلك، كيف أن النقاد استخدموا التاريخ لنقد المتون، مستدلاً بأمثلة كثيرة مستخرجة من أمهات الكتب.
٢٥ـ كما ذكرت أن الاهتمام بنقد المتن واضح في رواية الحديث باللفظ وأن الشروط التي ذكرها الإمام الشافعي وغيره من الأئمة لجواز الرواية بالمعنى، مردُّ كلها إلى الاهتمام بالمتن، واتخاذ السُّبل اللازمة لحفظه من التبديل والتحريف.
٢٦ـ ثم جئت بأمثلة عديدة من مؤلفات أئمة النقد لأدَلِّل على أن المحدثين لم يخطوا خطوة في دراسة الأحاديث النبوية ومقارنة بعضها مع بعض إلا وقواعد نقد المتن كانت نصب أعينهم في كل لحظة، وأنه لم يوجد حديث صحيح أو سقيم في الدنيا إلا وقد درسه النقاد سنداً ومتناً.
٢٧ـ وذكرت في مبحث مستقبل، أن العلة كما تكون في السند قد تكون في المتن أيضاً وأن المحدثين اعتنوا بهذا، ونقدوا متون مئات من الأحاديث لوجود علة فيها. ولكن من العجيب المفيد أنهم كلما وجدوا حديثاً معلولاً متنه، جاؤوا إلى سنده بالبحث والتمحيص، فوجدوا فيه ما يدعو إلى تركه أو الشك فيه.
٢٨ـ ثم ذكرت القواعد التي اتبعها النقاد لإدراك العلة، القواعد التي كانت نتيجة تجاربهم الدقيقة العميقة في مجال النقد.
٢٩ـ ثم تطرقت لموضوع "الشذوذ في المتن" وبيَّنت ماذا يعني الشذوذ في المتن، وأن النقاد تعرضوا لجميع الأحاديث التي خالف فيها الراوي الفرد الأضبط منه والأحفظ، أو خالف جماعة، وبيَّنوا ما فيها من المخالفة والشذوذ، وذكروا الزيادة والنقصان، وكشفوا ما فيها من القلب أو الاضطراب أو التصحيف أو الأنواع الأخرى من عيوب المتن. وأثبتُّ كل هذا بالأمثلة التي استخرجتها من بطون المراجع.
وهذا إن دل على شيء، فقد دل على اهتمام النقاد بالمتن ومعرفة ما يطرأ عليه من العلل والعيوب الأخرى.
٣٠ـ وفي فصل خاص أوضحت: كيف أن المحدثين اهتموا بمعرفة الأحاديث الموضوعة ووضعوا ضوابط علمية وقواعد ثابتة، وحدَّدوا أمارات لمعرفتها بدون أن ينظروا في السند، وأحوال رجاله، وأن تلك الأمارات قد تكون في السند، وقد تكون في المتن. وأن هذه المكانة العظمى أعني معرفة الأحاديث الموضوعة من دون النظر في السند، لا يبلغها إلا من وجدت فيه الصفات التي ذكروها.