هذا، وقد تجلى للقارئ الكريم أن أهل النهروان ومعارضي التحكيم الذين قيل عنهم ما قيل طوال القرون الغابرة، والذين طالما شوهت حقيقتهم ونالهم من ظلم الفرق الأخرى ومن حيف كثير من المؤرخين والكتاب الشيء الكثير، كانوا – في الحقيقة – طلاب حق أصابوه، وإن قيل عنهم غير ذلك، بل كانوا هم أصحاب الرأي الحازم والنظرة النافذة في أعماق الأحداث، وقد جرت الأمور على ما توقعوه، والمتأمل في المجريات التاريخية يتبين له صدق هذه النتيجة.
ولا غرابة في ذلك، فقد كانوا من أهل الفضل والعلم، وكان فيهم جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الأقدمين منهم. كما وصفوا بأنهم أصحاب البرانس والسواري، وفي ذلك دلالة واضحة على اتصافهم بنعوت الخير والتقى والزهد في الحياة، ووصفوا بالقراء الذي كان لقباً للعلماء والفقهاء يومئذ، وقد تقدم عن ابن عباس ما يكفي للتأكد على صحة هذا الوصف، فقد قال لعتاب بن الأعور التغلبي – أحد معارضي التحكيم – كما سبق إحالته إلى ابن أبي شيبة في مصنفه:"إني أراك قارئاً للقرآن، عالماً بما قد فصلت ووصلت"، الأمر الذي دعا راوي القصة – وهو كليب بن شهاب الجرمي – إلى وصفه بقوله:"كأنما بنزع بحاجته من القرآن في سورة واحدة". إضافة إلى ما سبق ذكره من الأمور الأخرى التي تشهد لقوة ما صاروا إليه في مسألة التحكيم. وبناء عليه فلا مجال لقبول تأويل حديث المروق الصحيح أو غيره فيهم. وقد بان جلياً أن حديث المخدج الذي يقتضي أن يراد به أهل النهروان غير ثابت، بل حكمت عليه السيدة عائشة رضي الله عنها بأنه مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم ذكره وذكر النقاش فيه. كما تجلى أيضاً أنهم بريئون من وصمة الخوارج التي تلصق بهم. والأمر نفسه يجري على من نهج نهجهم دون غلو ولا شطط كما هو حال الأزارقة والنجدات والصفرية الذين حكموا على مخالفيهم بالشرك والكفر المخرج من الملة. ورغم ذلك، فإن ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تنص على الذين سموا بالخوارج أو تشير إليهم لا يثبت، وليس كل ما يروى في الخوارج يكون صحيحاً، وذلك كالأحاديث التي مرت في الفصول المتقدمة، وكمثل حديث (الخوارج كلاب النار) الصريح بلفظه، فلا يصح أن يكون من كلام خير البشر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وقد أوتي جوامع الكلم وأفانين البلاغة.
ومن الجدير الإشارة إليه أن مثل هذه الروايات تأتي ضمن الحملة التي شنها الأمويون ضد أهل النهروان وأتباعهم والخوارج والمنسوبين إليهم، فقد اتخذوا أساليب عدة للتشنيع عليهم وتشويه صورتهم تجاوزت إلى الأحلام والمنامات.
وأما ما ورد عن الصحابة أو بعضهم من ذم الخوارج – الأزارقة والنجدات والصفرية – فلا يدخل ضمن تلك الحملة، فإنما قالوا بالحق ونطقوا بالصدق.