وذلك أن التحليل والتحريم حق لله – فمن حلل وحرم فقد جعل نفسه شريكاً لله في هذا الحق – ومن عاب الله على اليهود والنصارى طاعتهم لأحبارهم ورهبانهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحله وأخبر أنهم بهذه الطاعة قد اتخذوهم أرباباً من دون الله حيث يقول سبحانه {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
كما عاب على أهل الجاهلية الذين استباحوا الميتة التي حرمها الله وحرموا أنواعاً من بهيمة الأنعام التي أباحها الله تقليداً لآبائهم وأتباعاً لأهوائهم حيث يقول سبحانه {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب قال:(البجيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة: كانوا يسيبونها لألهتهم فلا يحمل عليها شيء ... والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي) أ. هـ.
"وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام .. كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعاً منهم لخطوات الشيطان فوبخهم الله تعالى ذكره بذلك وأخبرهم أن كل ذلك حلال فالحرام من كل شيء عندنا ما حرم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم. والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك" وتشريع الجاهلية في كل زمان ومكان في هذا وفي غيره تشريع ينبني على اتباع الهوى والتقليد الأعمى ويبتعد كل الابتعاد عن الوحي المنزل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} إنه منطق الجاهلية الذي لا يزال متوارثاً إلى اليوم فتعاني منه البشرية الضيق والحرج والتوغل في متاهات الضلال ما لم تثب إلى رشدها وترجع إلى شريعة ربها.
وقد طلب الله من عباده أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن يشكروه على ذلك ليزيدهم من الطيبات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وشكرها يكون باعتراف القلب أنها من الله وحده. وبالتحدث بذلك باللسان وبالاستعانة بها على طاعة الله – هذه أركان الشكر التي لا يتحقق إلا بوجودها جميعاً وإذا تحقق الشكر انتقى الأشر والبطر وصارت هذه الأطعمة قواماً للحياة السعيدة وعوناً على عمارة هذا الكون العمارة اللائقة، وإذا لم يتحقق الشكر صارت هذه النعم استدراجاً للخلق حتى يحيق بهم الهلاك والدمار {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}.