١٩ـ نصّ الفقهاء على اشتراط الجزم والتنجيز وعدم التردد والتعليق في النية، والعمل بالاحتياط مع وجود الشك لا يتحقق فيه هذا الشرط الذي نصّوا عليه، فجعل بعض الفقهاء هذه المسألة داخلة تحت قاعدة إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب. ووضع بعضهم لها ضابطاً وهو أن ترديد النية إن استند إلى ظاهر أو أصل سابق لم يضرّ، وإن لم يستند لذلك بطل.
٢٠ـ الورع مندوب إليه لما فيه من الاحتياط في العبادات والمعاملات، ومع كونه ليس واجباً إلا أنه أحد قواعد الدين.
وقد يكون المراد من لفظ الورع المعنى الأشمل، المطلوب أن يتصف المكلف به في أدائه للعبادة فيوصف بالوجوب، ولكنه لا يكون كذلك اصطلاحاً.
وقد يكون الورع بمعنى الاحتراز عن الحرام، فيكون حكمه الوجوب أيضاً، ولكن لا يدخل هذا المعنى في حقيقة الورع الاصطلاحي، وإن أطلقه بعض العلماء عليه. والورع كما يكون في الفعل يكون في الترك. والورع المستحبّ هو الذي يحقق الاحتياط في العبادات والمعاملات. أما ما لا يحقق ذلك فلا يكون مستحباً، بل هو وسوسة خارجة عن الورع. والورع عند بُعد الاحتمال ضرب من الوسواس، وكذلك لا ورع في الاحتمالات النادرة.
وقد ذهب جماعة إلى أن المباحات لا يدخل الورع فيها، لأن الله تعالى سوى بين طرفيها، والورع مندوب إليه، والندب مع التسوية متعذر.
وقال آخرون: يدخل الورع في المباحات، والحق أن القولين كليهما صحيح، إذ لم يتواردا على محل واحد في الكلام. والجمع بينهما أن المباحات لا زهد فيها ولا ورع فيها من حيث أنها مباحات، وفيها الزهد والورع من حيث أن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات. وكثرة المباحات ـ أيضاً ـ تفضي إلى بطر النفوس، فكان الزهد والورع في المباحات من هذا الوجه، لا من جهة أنها مباحات، فسبب الوقوع في الحرام هو كثرة الأخذ من المباح، وقلة الوقوع في الحرام هو الورع والإقلال من المباحات.
وقد أنكر العلماء على من سدّ باب الورع، وهم المباحية الذين لا يميّزون بين الحلال والحرام، بل الحلال ما حلّ بأيديهم والحرام ما حّرموه، لأنهم ظنّوا أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لابدّ للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن، وهذا الظنّ قد أورثهم الانحلال عن دين الإسلام.
وترك المباح لا يعدّ من الورع مطلقاً، حيث ورد الإذن بتناوله، ومن ذلك مثلاً ترك الأعطيات التي لا شبهة فيها، إن كان القلب ليس مستشرفاً لها، وأما السؤال والاستشراف للمال فتركه مطلوب. ويدخل في باب الإفراط في الورع الممنوع: الورع في ترك ما فعله ?.
٢١ـ الاختلاف عند الأصوليين هو ما تعددت فيه آراء المجتهدين وأهل الرأي في المسائل التي لم يرد فيها دليل قطعي. والمراد من الخروج من الخلاف هو أن من اعتقد جواز شيء يترك فعله إذا وجد من أهل الاجتهاد من يعتقد كونه حراماً، أو اعتقد جواز الشيء يفعله إذا كان من أهل الاجتهاد من يرى وجوبه. وحاصل هذه القاعدة هو الجمع بين أقوال المجتهدين. وقد كثر نقل العلماء للعمل بهذه القاعدة وبيان فضلها، حتى حكى بعضهم الاتفاق على الحث على الخروج من الخلاف إذا تحققت شروطه. وهي أن لا يؤدي إلى محذور شرعي من ترك سنة ثابتة، أو اقتحام مكروه، وأن لا يكون دليل المخالف في غاية الضعف والبعد من الصواب، وأن لا يؤدي إلى الوقوع في خلاف آخر، وأن لا يكون مريد الخروج من الخلاف مجتهداً، فإن كان مجتهداً لم يجز له الاحتياط في المسائل التي يستطيع الاجتهاد فيها، وإنما ينبغي له الرجوع إلى النص الصحيح فيقف عنده.