فهذه النصوص صريحة في تحريم الحيل ومنعها وأن فاعلها مستحق للعن لما يترتب عليها من المفاسد والمضار التي تتناقض مع ما قصده الشارع من مشروعية الحكم فآكل الربا ذمه الله لما يستحله بالتدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، والواشمة والمستوشمة والمتشبهين من الرجال بالنساء والمشتبهات من النساء بالرجال لعنهم الله وذمهم لما ارتكبوه من التدليس والتلبيس وتغيير خلق الله. "وهذه الحيل تناقض سد الذرائع مناقضة ظاهره فأن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله"[أعلام الموقعين ج٣ ص١٧١]. ومما تقدم تتقرر الحقيقة التي نحن بصددها وهي بطلان عمل من أراد في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له وهو أن يظهر عقدا حلالا يريد به محرما، مخادعة وتوسلا على فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك، فكل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله باطل سواء كان ذلك يف الأمور الظاهرة كالصلاة والزكاة والصيام وسائر العقود أو الأمور الباطنة وهو ما يعود إلى النية والقصد وقد فصل القول في ذلك كله وأوضحه من أعطى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا في قوله صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
الحقيقة السادسة:"النية يقصد منها تمييز العمل وتمييز المعمول له" معنى هذه الحقيقة أن النية تتعلق بأمرين:
١ - تمييز العمل:
أ- تمييز العادة من العبادة: كثير من العبادات تشبه العادات وتماثلها وذلك كالغسل للتبرد والغسل لرفع الحدث، ودفع المال أجرة أو صدقة أو زكاة، والسفر إما للجهاد أو السياحة أو طلب العلم وأمثال هذه كثير ولا يميز هذه الأمور ويفصل بعضها عن بعض إلا النية" [قواعد الأحكام ج١ ص٢٠٧]. ب- تمييز رتب العبادات بعضها من بعض: العبادات متفاوتة في رتبها فمنها الفرض والنفل، والفرض منه ما يكون إيجابه من قبل الشارع ومنه ما يكون من قبل المكلف فما يكون قبل الشارع كالصلاة والزكاة، وما يكون من قبل المكلف كالنذر والكفارة. والنفل منه ما هو مقيد ومنه ما هو مطلق ولا يميز هذا التفاوت إلا النية فإذا قصد المكلف عبادة فلابد أن يميزها بالنية فرضا أو نفلا مطلقا أو مقيداً أو غير ذلك ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم وكل ذلك إلى النية فقال ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
٢ - تمييز المعمول له: شرع الله من العبادات والتكاليف المالية والبدنية ما هو مركب في المال والبدن وهذه العبادات لا تكون قربه وعباده على الوجه الصحيح إلا إذا كانت خالصة موافقة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحقق هذا ويميزه إلا النية وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله:_ ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))، تميز بهذا الحديث أهل الإخلاص من أهل الرياء وأصل ذلك النية فإذا نوى بعمله الله والدار الآخرة كان عمله صحيحا مثابا عليه لأنه قصد بالعبادة ما شرعت له وأن قصد بعمله الدنيا "مالا وجاها ومدحا وثناء وتعظيماً وغير ذلك" كان له ما نوى فبكذا يحصل التمييز بالنية بين عمل وعمل ومعمول له ومعمول له [انظر شرح حديث إنما الأعمال بالنيات لابن تيمية ص١٦، قواعد الأحكام ج١ ص٢٠٧، الأشباه والنظائر للسيوطي ص٨].