الحقيقة السابعة:"النية داخلة تحت الاختيار": وإذا كانت النية بهذه المنزلة التي مر إيضاحها في المباحث والحقائق السابقة وأن لها تأثيرا كبيرا في العمل فهو مرتبط بها صحة وفسادا فهل المكلف قادر على توجيه نيته وتحديدها أم أن النية أمر قهري لا سلطان للمكلف عليها ولا يستطيع التصرف فيها؟ فالجواب [الموافقات ج٢ ص٧٦] أن يقال بأن النية عمل القلب وعمل القلب مطاق للمكلف مقدور له داخل تحت الاختيار [إغاثة اللهفان ج١ ص١٥٦ - ١٥٩] فهو مأمور بإخلاص النية وتصفيتها وتحديد المقصود بها. ومنهي عن الاشتراك في النية وعدم تصفيتها وأن ينحرف بنيته إلى غير ما أمر به وهذه أمور باستطاعة المكلف وقدرته ولو لم يكن كذلك لكان الأمر بالإخلاص والنهي عن الإشراك تكليفا بما لا يطاق والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا بما لا نطيق ولا نستطيع أن الله سبحانه يسر على خلقه فدفع عنهم ما فيه مشقة وحرج. قال تعالى {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: ٢٨] وقال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨][تفسير القرطبي ج٥ ص١٤٨ - ١٤٩، ج١٢ ص١٠٠] وإذا فإن الإنسان قادر على تحدد نيته وتوجيهها وإخلاصها كما أنه قادر على صرف نيته عما لم يرد منه شرعا ذلك أن الله ركب في الإنسان العقل وجعل له أرادة واختيار وأبان له طريق الخير ووضحه له ودعاه إليه. ووعده على ذلك [تفسير النسفي ص٦٩٣، ٦٩٦] الأجر العظيم والثواب الجزيل كما أنبا له طريق الشر وحذره منه وتوعده على ارتكابه ورتب على ذلك العقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة وذلك بإرسال رسله وإنزال كتبه وبيان الحجة وأضاع المحجة قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: ١٦٥] وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء: ١٥] فالنية من أعمال المكلفين التي يطيقونها ويقدرون عليها وما على المكلف إلا الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى أخلاص النية وذلك بالتعرف على الله في التأمل في بديع صنعه وعظيم نعمه وينظر في عظيم ثواب الطائع وعظيم عقوبة العاصي وينظر في الفوائد التي تعود عليه من الطاعات في الدنيا والآخرة فعند ذلك تنبعث النفس إلى القيام بطاعة الله صادقة مخلصة، وإذا كان الغالب على العبد أمر الآخرة وامتلأ قلبه بحب الله وخوفه ورجائه سهل عليه استحضار النية لأن قلبه مائل إلى الخير باستمرار.
وإذا أخذ بالأسباب التي تصرفه عن طاعة الله فمال إليها وتعلق بها كان جزاؤه أن يحبها ويألفها فيصعب عليه أخلاص النية وترك المعصية قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصف: ٥] وقال تعالى {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطر: ٨] فلا شك [إغاثة اللهفان ج١ ص٨٣] إن الأخذ بأسباب المعاصي والذنوب يقسي القلوب ويضعف الإخلاص وكلما زادت المعاصي اشتدت قسوة القلب وابتعد عن طاعة الله ومما قيل في هذا المعنى: