وهذا ما كفله الله سبحانه في هذه الشريعة للمهتدين بهديها الذين لا يعدلون عن سننها، ولا تنحرف بهم الأهواء عن سمو تشريعها ولا تزيغ قلوبهم عن فيض حِكَمها وأحكامها:{أفحكم الجاهلية يبعون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} المائدة:٥٠. فكانت هذه الشريعة متعددة المصادر، متنوعة المدارك، لاستنباط ما يصلح حياة الناس من الأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة في الخلق كما أرادها الخالق جلت حكمته. ومن هنا كانت المرونة، وكان الاتساع، وكانت الملائمة لكل زمان ومكان وكل شأن وحال.
فلقد كانت هذه المرونة في كتاب الله تعالى المنزل على رسوله المصطفى?، وهو أصل الأصول في هذه الشريعة، والغاية التي تنتهي إليها أنظار المتبصرين، ومدارك أهل الاجتهاد والاستنباط، ليعرفوا حكم الله تعالى في كل حادثة ونازلة، وهو المرجع الذي ليس وراءه غاية لمستزيد، فقد فصل كل شيء وبينه أحسن تبيان:{ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}[النحل: ٨٩]. وأتى على الأول والآخر: فنظم شؤون الحياة وبين علاقة الفرد بربه، وتناول أموره بتشريع الأحكام منذ كان جنيناً في رحم أمه إلى أن يصير رفاتاً في قبره، ينظم له شؤون حياته، فيضع الأسس السليمة وينير المسالك القويمة التي ترعى شخصه وتهذب نفسه، وتحفظ له حياته وعقله، وتصون ماله وعرضه، وتحكم علاقته ببني نوعه، بعد أن كفلت فيه الدين السليم والعقيدة الصافية، وأيقظت فيه الضمير الحي، وأدبته على مكارم الأخلاق، ولقد تبارك الله تعالى القائل:{ما فرطنا في الكتاب من شيء}[الأنعام: ٣٨].
ثم كانت هذه المرونة في السنة المطهرة، ذلك المعين الفياض الذي لا ينضب مَدْركاً من مدارك الأحكام، تعرفنا حكم الله سبحانه وتعالى في كل كبير وصغير. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن ربه:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}[المائدة: ٦٧]. وهو المبين مراد الله عز وجل فيما أنزل:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}[النحل: ٤٤]. فالسنة المطهرة تأكيد لما بين في كتاب الله من أحكام، وتفصيل لما أجمل، وتقييد لما أطلق، وتخصيص لما هو عام.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المظهر العملي لشريعة الله تعالى، فهو المكلف الأول:{وأنا أول المسلمين}[الأنعام: ١٦٣]. وهو القدوة الصالحة:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}[الأحزاب: ٢١]. وهو الذي يتلقى الوحي من السماء:{وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}[النجم: ٣ - ٤]. وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وهو الذي قذف لله النور في قلبه، وأجرى الحق على لسانه وجعل طاعته من طاعته ومعصيته معصيته:{من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}[النساء: ٨٠].
لهذا كله كانت السنة المطهرة ـ في مجمل أحكامها وتشريعاتها ـ بمنزلة كتاب الله تعالى، ما ثبت فيها ثابت بوحي من الله سبحانه وأمر منه وتكليف:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر: ٧].