ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام بشراً يعيش على الأرض عيشة المكلفين من عباد الله، وهو على صلة بأحوالهم وشؤونهم ـ والله أعلم بأحوالهم وشؤونهم ـ ويمارس أعمالهم ومصالحهم، ويتبصر بما يوقعهم في الحرج وما يخرج بهم إلى السعة واليسر، وهو أعرف الخلق بما يبلغ عن ربه، وأخبرهم بمقاصد الشريعة التي أفاضها الله على روحه وقلبه ـ {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}[الشورى: ٥٢] وهو الذي أولاه الله العناية، وعصمه من الزيغ ووفقه إلى الحق، وسدده إلى الصواب، لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متصفاً بهذه المعاني والصفات كان يشرع للناس من أحكام الله تعالى ما فيه خيرهم وصلاحهم، وما فيه رعاية مصالحهم في دنياهم، وفوزهم في أخراهم، كل ذلك بما يتفق وروح القرآن ومنهجه، وما يتفرع عن أصوله وقواعده، مما ألقاه الله سبحانه وتعالى في روعه فبينه للناس ثم أقره عليه.
وبهذا كانت السنة ـ وهي مصدر عظيم من مصادر التشريع، ودليل أساسي من أدلة أحكامه ـ جامعة مانعة، عامة شاملة، لا تفوتها شاردة ولا واردة إلا وقد أعطتها حكماً شرعياً، فيها بيان لما كان وما سيكون، وفيها تنظيم عملي رائع لشؤون الحياة مستوحى عن الله خالق الحياة ومن يحيى، ومرتبط بمالك الملك والملكوت الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فقلما تحدث حادثة، أو تنزل نازلة إلا ونجد في السنة المطهرة الحكم الشافي والبيان الوافي لها. وهكذا كانت المرونة والاتساع في شرع الله تعالى لعباده في الكتابة المنزل، وسنة نبيه المختار، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن بدهي القول أن وحي الله قد انقطع، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توقفت بقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ورغم أن كتاب الله تعالى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأن السنة كانت المبينة والمفصلة والمتممة، فإن نصوصهما محصورة محدودة، والحوادث تتجدد وتتكرر، والمحصور لا يحيط بغير المحصور نصاً ولفظاً ـ وإن كان يحيط به معنى وتقعيداًـ ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى زيادة توسعة على الأمة، مَنًّا منه سبحانه وتفضلاً، ففتح لها باباً لاستخراج الأحكام لا يسد، وفجر لنا ينبوعاً لا ينضب، بل لا يزال يمدنا بالأحكام الشرعية لما يتجدد من تصرفات فيها جلب مصالح العباد وخيرهم، ودفع غوائل الشر والفساد عنهم، وكان هذا الفضل من الله فيما أرشدت إليه نصوص القرآن، ودلت عليه السنة المطهرة من إجماع أهل الحل والعقد، وذوي الخبرة والفهم في دين الله، عندما تقع واقعة أو تحدث حادثة، يعوزهم أن يجدوا لها نصاً صريحاً في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه ?، يدلهم على حكم الله تعالى فيها، فيجتمعون يتلمسون المستند لها في شرع الله بتداول الرأي وتقليب وجهات النظر، استرشاداً بقوله تعالى:{وأمرهم شورى بينهم}[الشورى: ٣٨]. ثم يجمع رأيهم على حكم شرعي يصبح بعد الإجماع عليه حكم الله تعالى في هذه الحادثة لا يجوز لأحد أن يخالفه، التزاماً بقوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}[النساء: ١١٥].
والأمة لا تحتاج إلى حكم شرعي في الحادثة إلا إذا كانت ذات شأن في حياتها، ولها صلة بأمور معاش الناس التي يريدونها مطية لمعادهم، وعلماء الأمة المخلصون ـ الذين يلتزمون شرع الله، ويريدون الصلاح للناس ـ لا يجمعون على حكم شرعي ـ سلباً أو إيجاباً ـ إلا إذا أيقنوا أن فيه تحقيق مقاصد الشرع من جلب النفع أو دفع الضر، ورعاية مصالح العباد.