والفقهاء المسلمون بعامة، والحنفية بخاصة لم يهملوا هذا الجانب من حسبانهم ابتداء وانتهاء، بل تأملوه ووضعوا في اعتبارهم معاني وأفكاراً ولكن بطرقهم الخاصة، وحسب وجهات نظرهم التي قد تكون ملائمة لعصورهم وأجيالهم، كما أن نظرتهم في الترتيب بين موضوعاته اتجهت إلى الفقه كلية، وليس إلى قسم دون قسم، يتضح هذا من المناسبات التي ذكرها الأحناف تفصيلاً عند كل موضوع, والتي يمكن تلخيصها وإجمالها في العناصر التالية:
أولاً: الترابط الموضوعي بين بعض الأبواب، مثل موضوعات العبادات وأبوابها، وأبواب الرضاع والطلاق بالنسبة لكتاب النكاح.
ثانياً: التماس علاقة معنوية بين الباب والآخر مثل التقابل كما ورد هذا في المناسبة بين كتاب المأذون، وكتاب الغصب، وبين الأخير وكتاب الشفعة.
أو وجود معنى مشترك بين الباب السابق واللاحق مثل المناسبة بين باب الطلاق وباب الإعتاق، وبين الأخير وكتاب الأيمان وكتاب اللقيط، وكتاب الآبق، وكتاب المفقود مع بعضها جميعاً.
أو حكم مشترك مثل الأيمان والحدود.
أو صفة مشتركة مثل كتاب الحدود وكتاب السير، وكالعلاقة بين كتاب المفقود، وكتاب الشركة.
أو بينها علاقة فيما يتصل بالحق: حق الله، أو حق العباد، أو ما اجتمعا فيه حق الله، أو حق العباد. فيتناسب الباب اللاحق في الذكر مع الباب السابق.
أو تأمل علاقة السببية والمسببية بينها كما هو الأمر بين كتاب الوكالة وكتاب الدعوى، وبين كتاب المكاتب وكتاب الولاء.
أو ملاحظة التدرج في الترقي من أدنى إلى أعلى من حيث قوة المعنى، مثل العلاقة بين كتاب الوديعة، والعارية، والهبة، والإجارة، أو العكس.
أو الاشتراك في عارض طارئ كالعلاقة بين كتاب الإِكراه، وكتاب الحجر.
أو معنى خارجي مستقل كما هو التعليل لإنهاء موضوعات الفقه وكتبه بكتاب الوصايا؛ " لأن آخر أحوال الآدمي في الدنيا الموت والوصية معاملة وقت الموت ".
إلى غير ذلك مما يمكن تتبعه استقراء ً.
لم يكن الترتيب بين أبواب الفقه وموضوعاته في المذاهب الثلاثة المالكية، والشافعية، والحنابلة ليحتاج إلى العناء والجهد الذي كلف فقهاء الحنفية لإيجاد المناسبات والعلاقات. فقد بدت الأبواب الفقهية منسجمة في الغالب تحت أقسامها، متلائمة معها في موضوعاتها، وما بدا منها غريباً في موضعه، شإذا في ترتيبه، فإنه ليس بالكثير، فمن ثم أوجدوا له العلة المناسبة وهذا ما لم يخل واحد منها، ولكن بنسبة محدودة. وهو خاص بوضع باب تحت قسم من الأقسام الرئيسية يبدو أنه غير منسجم ضمن موضوعاته.
وذلك كوضع المالكية باب المسابقة في نهاية باب العبادات، وباب اللعان ضمن أبواب النكاح، وباب الإقرار والاستلحاق ضمن كتاب البيوع، وباب العتق بعد قسم القضاء.
والشافعية في وضع كتاب الوديعة، وكتاب الصدقات بعد كتاب الفرائض والوصايا، وذكر هذين الكتابين بعد كتاب العبادات والمعاملات، ووضع كتاب السير تالياً لكتاب (الجنايات) وقسماً من أقسامه، وذكر كتاب العتق في نهاية الأقسام.
والحنابلة في وضع باب الهبة والعطية، وكتاب الوصايا والفرائض ضمن قسم المعاملات، وذكر كتاب الأطعمة, والذكاة، والصيد، والأيمان، والنذور في قسم الجنايات.
عدا الاختلاف في ترتيب الأقسام الرئيسية بين المذاهب، فقد وضع كل مذهب معنى وأسباباً لتقديم قسم على آخر.
كما يكون السبب أحياناً في ترتيب الأبواب اتباع الأئمة، أو واحد من كبار أصحابهم في ترتيب التأليف كما هو موجود في ترتيب بعض الأبواب عند الحنفية، والشافعية.