ومما لا شك فيه أن التنظير لموضوعات الفقه الإسلامي بهذا المفهوم يمد الباحث والدارس بتصور واسع، وإدراك للعلاقة المشتركة في كافة الفروع الفقهية في عموم آفاقها وجوانبها، الأمر الذي يساعد على فهم الموضوع، أو النظرية في صورتها الشاملة، وليست أجزاء متفرقة منفصلة قد يستوعبها الدارس جزئية جزئية، ولكن يصعب عليه ربطها، أو إدراك العلاقة والصلة بينها، ولو أدرك هذا وتوصل له فإنما يدركه بعد فترة طويلة من الجهد والممارسة هذا إذا توجه إليها، وإلا فإنه لن يكون لها نصيب من اهتمامات التفكير عنده.
وإيماناً بجدوى هذه الطريقة المنهجية، طريقة التنظير لموضوعات الفقه الإسلامي عكف كبار الفقهاء في العصر الحديث على التأليف حسب مناهجه وطرقه، ووضعوا لبناته الأولى في منهج سوي، وإن عدد المتبنين لهذه الطريقة بين الفقهاء المعاصرين يزداد ويتضاعف عن إيمان وقناعة، ومما تجدر الإشادة به أنه بالإضافة إلى جهود الفقهاء المسلمين المعاصرين في هذا المجال تساندهم مجموعة كبيرة من القانونيين أصحاب الدراسات الشرعية المتينة - والاطلاع الفقهي الواسع، تدفعهم قناعة عميقة بعظمة الفقه الإسلامي وصلاحيته، بل وتميزه على القوانين الأخرى - أسهموا ويسهمون بقدر كبير في هذا المجال مقابلة بين هذه النظريات في الفقه الأجنبي والفقه الإسلامي.
وتزداد مؤلفات هؤلاء وأولئك يوماً بعد يوم، وتمتلىء بها رفوف المكتبات.
والمهم في كل هذا أن تبدأ المؤسسات الجامعية، والمراكز العلمية بالتركيز على هذه الطريقة في مراحل الدراسات العليا ليستوعبها الباحثون الجدد، وتنصهر في أفكارهم حتى يأتي نتاجهم صورة لما قد تبلور لديهم من طرق مستقيمة، ومناهج علمية تتلاءم وأسلوب العصر، وتواكب تقدمه الفكري، كما يكون الاهتمام بكتب التراث الفقهي والعناية به إخراجاً ودراسة اهتماماً متساوياً مع ذلك المنهج الحديث فيجتمع للفقيه المعاصر متانة القديم وأصالته، وروعة الحديث وملاءمته.
وفي ختام هذا العرض والدراسة لا بد من الاعتراف بالجهود المخلصة المبذولة لتيسير الفقه الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات، سواء بعمل الفهارس والكشافات، أو التقنين وإعادة الصياغة، أو التنظير، أو الترتيب، أو المعاجم الفقهية، أو الموسوعية، فكل هذه إسهامات تجلي الصدأ عن هذا التراث الهائل النفيس.
وإن من هذه الجهود الرائدة في هذا المجال مشروع (الموسوعة الفقهية) الذي تتبناه وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، إذ يجري العمل فيها بتصور علمي على مستوى الأعمال الموسوعية العالمية في العصر الحديث، عرضاً، وتنظيماً، وتوثيقاً، وما تقوم به أيضاً من عمل كشافات وفهارس تحليلية لمصادر الفقه الإسلامي.
وإن الشعور بالمشكلة، وتوجه النوايا الصادقة، وتضافر الجهود المخلصة الواعية كفيلة أن تحقق الكثير بما يعيد للفقه الإسلامي مكانته، وتكشف للأجيال أصالته لتحقيق الاستفادة منه.