وهذه الشبهة ليست أفضل من سابقتها، ذلك لأنه ليس هناك أي عمل يقوم به بنو الإنسان إلا وهو محتمل للخطأ ولذلك ورد في الأثر: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
وبناء عليه فلا يعتبر احتمال الخطأ مبررا للمطالبة بالإلغاء، ولو اعتبرنا الخطأ مبررا للمطالبة بإلغاء عقوبة القتل لاعتبرناه أيضا مبررا للمطالبة بإلغاء غيرها من العقوبات البدنية كالسجن والجلد والتكليف بالقيام بالأعمال الشاقة، لاحتمال وقوع الخطأ فيها، مع عدم إمكانية تلافيه، ولم يقل أحد بذلك.
على أن العقوبة بالقتل قد أحيطت بضمانات كثيرة تهدف إلى الحرص على ألا تنفذ هذه العقوبة إلا فيمن استحقها فعلا.
ثالثا: أن هذه العقوبة غير مجدية فلم يقم دليل على أن تطبيقها يقلل من ارتكاب الجرائم في البلدان التي تنفذها.
وهذه الشبهة مجرد دعوى خالية عن الدليل، والواقع يرفضها، فقد قرر كثير من المشتغلين بالقضاء والمحاماة أن الجناة لا يخشون أي عقوبة خشيتهم من الإعدام، ولذلك فهي عقوبة رادعة عن ارتكاب الجرائم بشهادة هؤلاء، ورحبت بعض المراجع القضائية الأمريكية بزيادة تنفيذ عقوبة الإعدام في الآونة الأخيرة في المجرمين الخطرين، لأنه ثبت في نظر المسؤولين أنه من شأن الجدية في تنفيذ عقوبة الإعدام أن تؤدي إلى تخفيف الجرائم، وإن كان المدعي العام في أطلنطا (مايكل باوز) يقول: إنه لا يستطيع أن يثبت هذا القول، ولكنه يصدقه على كل حال.
وقد نشرت جريدة الرياض في عددها (٥٥٧٩) الصادر يوم الأحد ٢٥ ذي الحجة عام ١٤٠٣هـ تحت عنوان (بعد ازدياد معدل جرائم القتل، الفرنسيون يفضلون إعادة تطبيق عقوبة الإعدام) – نقلا عن وكالة رويتر – أن معظم الشعب الفرنسي يرغب إعادة المقصلة، ويعتقد الكثير منهم أن معدل جرائم القتل ارتفع بصورة مضطردة منذ إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا منذ عامين.
رابعا: أن هذه العقوبة تتسبب في بطء وتأخر الفصل في الجرائم التي تستوجبها، لأن القضاة يتحرجون من الحكم بها، لفظاعة هذه العقوبة وقسوتها، ويتيحون بذلك الفرصة أمام الدفاع للأخذ والرد، والتحايل على الأنظمة والقوانين بشتى الوسائل والطرق، مع وجود الأذن الصاغية لما يقولون، رغبة في توصلهم إلى ما يبرئ المتهم ولو بدون حق، وذلك يؤدي إلى تعطيل سير العدالة، والتقليل من هيبة المحاكم والقضاة.
وللإجابة على هذه الشبهة أقول بأن قيام القاضي بالتثبت والتأكد من استحقاق المتهم للعقاب أمر مطلوب في كافة الجرائم، ويتأكد ذلك في الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل، ولا يعتبر ذلك عيبا في العقوبة، ولا مسوغا للمطالبة بإلغائها، وقيام القاضي بالتثبت أمر له حدود، فإذا بان له وجه الحق في القضية وجب عليه الحكم، ولم يجز له التأخير رأفة بالجاني على حساب مصلحة المجتمع، وعندئذ لا يكون هناك تأخير في الفصل وإصدار الأحكام لا في الجرائم الموجبة للقتل، ولا في غيرها من الجرائم.
وبعد، فإن هذه الشبه جميعا لا ترد إطلاقا على العقوبة بالقتل في الشريعة الإسلامية، وذلك لأنه إذا وجد الدليل الصحيح الصريح على وجوب قتل شخص ما لارتكابه جريمة ورد الشرع الحنيف مرتبا العقوبة بالقتل على ارتكابها وجب التسليم والانقياد، وتطبيق ما ورد به الدليل، واعتباره جزءا من الدين، لا ينبغي للمسلم المراء ولا الجدال فيه، وإلا كان مخالفا لأمر الله ولشرعه، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} وكان المخالف لمقتضى الدليل مستحقا للوعيد الذي ورد ذكره في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.