وقد أدى هذا التعليل ببعض الناس إلى عدم التفريق بين وقت العزيمة للرمي ووقت الرخصة، فسووا بين الرمي بالليل والرمي بالنهار من غير حاجة. وهذا خلاف السنة.
ثانياً: توسع بعض المعاصرين في دلالة الحكم المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حرج) فجعل هذا قاعدة في أحكام الحج. حتى أفتى بعضهم بصحة طواف من أحدث في أثناء الطواف من شدة الزحام ولو لم يعد الوضوء؛ بحجة رفع الحرج.
وفي نظري أن هذا خلاف ما عليه جماهير الأمة المبني على ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف كما رواه البخاري في الصحيح. فحكايتها للأولية ثم ترتيب الطواف عليها دليل على أن هذا الوضوء مقصود به استباحة الشروع بالطواف المبني على طهارة. فمن خالفه فطوافه خلاف السنة، لحديث:(خذوا عني مناسككم). ثم إن هذه عبادات الواجب فيها الوقوف على ما ورد. ولا يصح حمل الوضوء على الاستحباب لأنه فعل لأداء أمر واجب ولا معارض لهذا الدليل الخاص. وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في المجموع ٨/ ١٩: طريقة أهل العلم في الاستدلال بهذا الحديث على هذه المسألة. فيحسن مراجعته.
ثالثاً: قال بعض المعاصرين بجواز الخروج من عرفة قبل غروب الشمس، بقصد التسهيل على الناس في أمر الإفاضة، ولو تأمل في انحباس النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة حتى غربت الشمس. وحبسه للناس معه حتى أدى بهم هذا إلى تأخير صلاة المغرب عن وقتها، مع قصده أن يصليها بالمزدلفة؛ وأن في هذا تأولاً لقوله تعالى:{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لأحد في ذلك. حيث لم يسهل في أمر الانصراف، وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شفقة منا على أنفسنا. فليتهم وقفوا عند حدود دلالة فعله صلى الله عليه وسلم الذي قصد منه بيان النسك وإتمامه امتثالاً لما أمره الله به بقوله تعالى:{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}[البقرة: ١٩٨] وقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}[البقرة: ١٩٦]. فالذين أجازوا خروج الناس من عرفة قبل غروب الشمس قد خالفوا دلالة الكتاب والسنة الصريحة لحديث قابل للتأويل.
أما احتجاجهم بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه). ففيه نظر؛ لأن هذا الحديث مؤول بإجماع المسلمين. فلم يعمل أحد بهذا الظاهر فيما أعلم حتى من يحتج به على هذه المسألة. لأن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز للحجاج الانتهاء من الحج بمجرد الوقوف بعرفة بل لابد من الرمي والحلق، ثم إن المبيت بالمزدلفة ومنى من واجبات الحج فلا فرق بين الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، وهذه الواجبات، لأن دلالة الحديث تشمل هذه الواجبات جميعاً، فمن لم ير الوقوف حتى الغروب من الواجبات فقد فرق بين المتماثلات، حيث إنها ثبتت بالأفعال، وكلها تفعل بعد الوقوف لا قبله فظاهر الحديث يشملها على أنها لا تؤثر على تمام الحج وقضاء التفث. لكن الإجماع منعقد على خلاف هذا. وإن اختلفوا في بعضها فإن الإجماع منعقد على جملتها. فظهر بهذا وجوب تأويل الحديث، وذلك بحمله على أن المراد به إدراك الحج، لأن هذا هو المتفق مع حال السائل حيث سأل عن ذلك. كما أن هذا المعنى هو المتفق مع السنن النبوية الموجبة لكثير من أعمال الحج بعد الإفاضة من عرفة فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:(الحج عرفة).
إنني أدعو إخواني إلى أن يمعنوا النظر في مواطن الاستدلال من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى لا يتسع الخلاف بين الناس في أمرٍ الأصل فيه الاجتماع لا الافتراق. تحقيقاً لأمره صلى الله عليه وسلم بأن نأخذ المناسك كما فعلها صلى الله عليه وسلم. والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.