وإن افتقاد هذا المنهج يؤدي في تقديري إلى نتائج خطيرة، حيث تسيطر على ذهن الباحث فكرة تصحيح هذه الأعمال ما أمكن، وتلمس أوجه الشرعية لها بأي طريق وإن كان ذلك على حساب دقة النظر الفقهي، بل وإن أدى ذلك إلى إقامة تخريجاته على أساس التخيل والافتراضات، والخروج بها عن المعقول وطبائع الأشياء.
وإن هذه الروح هي التي أدت ببعض الباحثين إلى محاولة تخريج الفائدة على أساس افتراض قيام شركة مضاربة بين المصرف وبين جماعة المودعين، ثم اضطروا بعد ذلك إلى الترخص في أحكام المضاربة الشرعية، حيث لم يروا بأسا بتثبيت العائد الذي يرجع إلى المودع، أو بتضمين المصرف لهذه الأموال المودعة لديه رغم أنه يقوم فيها – بناء على تخريجهم – بدور العامل، ومثله لا يضمن إلا بالتفريط أو العدوان لأن يده على المال يد أمانة.
أجل! لقد اضطروا بناء على هذا التخريج إلى تجاوز أخطر حكمين من أحكام المضاربة، ليستقيم لهم الفائدة بناء على هذا التخريج ولو هدوا إلى الطيب من القول لفتحوا الطريق فعلا أمام هذا التخريج، ولكن بعد الاعتراف بأن الفائدة بصورتها الراهنة تلتحق بنظم القروض الربوية، ولكن إصلاح هذه المعاملة ميسور على أساس قيام شركة مضاربة فعلية بين المصرف وبين المودعين يتم فيها الالتزام بأحكام المضاربة الشرعية، فالربح جزء شائع، ولا ضمان على المصرف إلا بالتفريط أو التعدي، وبذلك نكون قد أحدثنا معالجة حقيقية لهذه النظم لتتفق مع الإسلام، بدلا من هذه التخريجات المجردة التي تعتمد على الافتراضات من ناحية، وعلى تحوير القواعد الشرعية لتتفق مع النظم الوضعية من ناحية أخرى، وفي ذلك ما فيه من شذوذ وتجاوز!
ثم عشنا في الباب الرابع مع الصياغة المصرفية لعقود الاستثمار الشرعية فعرضنا لعقود الاستثمار التي سبق بيانها في الباب الأول، لنبين كيف يمكن الإفادة منها في ترتيب الأعمال المصرفية، آخذين في الاعتبار ما يحتاج إليه العمل المصرفي من وضعية خاصة.
فكان حديثنا في الفصل الأول من هذا الباب عن المضاربة الشرعية، وكيف يمكن الإفادة منها في العمل المصرفي، وفي تنظيم العلاقة بين المصرف وبين جماعة المودعين من ناحية، وبينه وبين جماعة المستثمرين من ناحية أخرى ثم عرضنا لقضيتي الضمان وتثبيت العائد وهما من أخطر مسائل المضاربة في هذا العصر فأوسعناهما بحثا ومناقشة، وعرضنا للاجتهادات المعاصرة في هذين المجالين، فبينا كيف خرج القائلون بها على إجماع الأمة، ورددنا على ذلك بما فتح الله به، وبما نحسبه قولا شافيا كافيا بإذن الله.
ثم تحدثنا في الفصل الثاني عن عقود الاستثمار المباشر، وكيفية الإفادة منها في الأعمال المصرفية، فتعرضنا للمشاركة وصورها المقترحة في العمل، ثم للمرابحة التي فصلنا فيها القول لما شابها في التطبيق من بعض التجاوزات التي قد تخرج بها إلى صورة العينة التي أفتى بحرمتها جمهور الفقهاء، وبينا أن الخلل لم يأت في الترتيب النظري لهذه المعاملة، لاسيما بعد تقرير الخيار للمشتري، وإنما جاء من تجاوزات الممارسة، بعد أن عقدنا مقارنة بين صورة المرابحة وبين صورة العينة، ثم ذكرنا طرفا من الأسباب التي قد تكون أدت من وجهة نظرنا إلى هذه التجاوزات، ثم قدمنا في النهاية بيانا بالخطوات التي يجب أن تسلك في ترتيب هذا العقد حتى يسلم من كل اعتراض.
ثم كان حديثنا عن السلم وكيفية الإفادة منه في هذا المجال، ولا يزال النظر الفقهي المستبصر قادرا على أن يستخلص من هذه العقود الشرعية صورا، وأشكالا جديدة، تنطلق من إطاراتها الشرعية، وتفي بحاجات العمل المصرفي، وتحقق مصالح كل من المصرف وعملائه على حد سواء.