إن سلبيات المناهج العلمانية لا تظهر في الخاصية التجزيئية فيها فقط، بل في كثرة التناقضات والمفارقات التي تميز الموقف العلماني من الوقائع والنصوص والأشخاص. وقد يفسر البعض هذه التناقضات باختلاف المناهج المستعملة، لكن الواقع أن تحليل ظاهرة التناقض في الفكر العلماني عامة، ما ينبغي له أن يستبعد طبيعة هذا الفكر من جهة، وعلاقته بمجاله التداولي الإسلامي من جهة ثانية.
أما من حيث طبيعة هذا الفكر، فإن تباين المرجعيات النظرية التي يستمد منها مفاهيمه، يسكنها الاختلاف، ونظرا لأن الفكر العلماني يرى في الغرب سقف العقلانية الوحيدة، فإنه يلجأ إلى عملية توفيق بين الأسس الفلسفية والمنهجية والمفهومية للمذاهب الغربية، دون تحرير النزاع بينها، ورفع الاختلاف العميق في مكوناتها، والاعتراف بمحدودية اجتهاداتها البشرية.
وأما من حيث علاقتها بمجال تداولي غير مجالها، فمن الواضح أن تلك المذاهب والمناهج تضرب بجذورها في التاريخ الثقافي والديني للغرب، مما يجعلها تشتغل بخلفيات الصراع الفلسفي العريق بين سقراط والشكاك، وبين أفلاطون وأرسطو، وبين مادية التراث اليهودي ورهبانية التراث النصراني، وبين طموحات الثورات والصولات في العلم والسياسة، وقيود الموروثات والكهنوت.
وهل استطاعت هذه المناهج عند أهلها أن تفكر حقاً خارج السقف الديكارتي؟! وهل فكر ديكارت حقيقة خارج السقف الأرسطي؟!
إن من انشغل بدراسة مذاهب القوم وحدث في سبر إشكالاتهم، وتفنن في الدراية باصطلاحاتهم، ليعلم أن مفاهيمهم ومناهجهم ومذاهبهم شديدة الارتباط بمجالهم التداولي العريق في القدم، ولذا، فطبيعي أن يكون موقع العلمانيين من المجال التداولي الإسلامي المعاصر، أسوأ من موقع الفارابي وابن سينا وابن رشد في العصور الإسلامية السابقة، من حيث اضطرابهم في القول والنظر، وهدمهم لتراثهم بألوان من (السفسطة في العقليات) و (القرمطة في السمعيات).
على أن الموقف المنهجي التكاملي لا يخلو من مشاكل دقيقة أحياناً: فمنها جنوحه إلى النزعة الجوانية الصوفية تصريحاً كما عند طه عبد الرحمن أو تلميحاً عند كثير من دعاة الإحياء الإسلامي المعاصر. ومنها انتشار دعوة إلى تجديد الاشتغال الكلامي، كما نجد عند كثير من (المتكلمين الجدد) الذي تفرقوا كما تفرق القدامى بين من يريد إحياء الاعتزال، ومن يريد العود إلى الأشعرية والماتريدية، ومن يبتغي سبيل التشيع ... إن هذا (النكوص إلى العقلية الكلامية) - كما سماه المفكر المعاصر أبو يعرب المرزوقي – لهو من أخطر المظاهر المرضية التي تهدد العقل الإسلامي المعاصر، وتفقده القدرة على الإبداع الفكري والمنهجي، وتهوي به إلى أرذل أعمار الفكر: حين يفقد المنكر صفاء الذاكرة ودقة الرؤية وقوة الحركة الفاعلة في العلم المشاركة في صنع تاريخه.
ولا ريب في أن في انتشار ألوان من الخلل العقدي والفساد السياسي والاجتماعي في الحياة الإسلامية المعاصرة دافعاً إلى انتشار مثل هذه المواقف العلمانية، ودعوتها إلى الهجوم على الأنساق العقدية التقليدية، ولكن هذا الدافع لا يبرر تطاول العلمانية على عقائد الألوهية والنبوة واليوم الآخر؛ لأنها النواة التي بها تشكلت أمة المسلمين أول ما تشكلت، وبفضلها تكونت الدولة الإسلامية وشيدت حضارتها، لذلك فإن إعادة ترشيد الفكر العقدي الإسلامي الحديث، والعودة به إلى صفاء النبع الذي صدر عنه، لهو من أوجب واجبات الباحثين في مشروع التجديد الإسلامي المعاصر، الذي ينبغي أن يجعل من الإصلاح العقدي مجاله الأساسي.