لما كانت (العقيدة الإسلامية في تحديدها لحقيقة الوجود والإنسان والكون هي الفكرة التي صنعت الحضارة الإسلامية)، وكانت (العقيدة هي أساس الدين، وهي بالتالي المحدد الأصلي للهوية الإسلامية، وهي المحرك الأساسي لحركة التحضر، والطابع له بطابعه المميز)، فإن الإصلاح العقدي هو المدخل الرئيسي لإعادة البناء الحضاري للأمة الإسلامية في العصر الراهن، والمستقبل الآتي، وحيث إن طريق هذا الإصلاح شاق وطويل، نظراً لبعد الشقة بين المسلمين وبين النموذج الأصلح بسبب ما طرأ على عقائدهم من التشويش والخلط والانحسار، فقد وجب التنبيه في هذا المقام على مقدمات أساسية ينبغي استحضارها لصياغة الإصلاح العقدي المطلوب، وتتمثل هذه المقدمات في جملة أمور:
٣ - ١ - الترشيد والتجديد: لقد انتشر مصطلح التجديد في الربع الأخير من القرن العشرين انتشاراً واسعاً على يد العلمانيين، وما قدروه حق قدره، إذ كان التجديد عندهم هدما للدين وعقائد المسلمين. وإنما التجديد تنقية العقيدة مما علق بها من شوائب الشرك والبدع، والانحسار عن شمول المطالب الفكرية والثمار العملية، فالتجديد إجلاء للأصل، وإيضاح للقول الحق فيه، ولما كان الأمر كذلك، فقد وجب ترشيد المسلم اليوم لكي يتمكن من تحصيل ذلك الأصل السليم، فإذا كان التجديد بياناً للمفهوم، فإن الترشيد تحريض للمسلم على منهج يوصل إلى تبين ذلك البيان، وتقبله، والعمل بمقتضاه.
٣ - ٢ - ترشيد الفهم والقراءة: يقصد (بترشيد الفهم العقدي) للمسلمين، حصول تصور لمفهوم العقيدة مستمد من أصل الوحي دون زيادة أو نقصان أو تغير أو اضطراب. وإنما يكون ذلك بمبدأ (صفاء النبع) الذي سبق تفصيل القول فيه، أعني مرجعية القرآن والسنة دون غيرهما من مصنفات المتكلمين والفلاسفة التي كدرت صفاء الفهم العقدي، وحصرت العقيدة في قضايا جامدة، وخلافات عميقة ما ينبغي للعقل الناهض المبدع أن ينكص إليها.
وأما (ترشيد القراءة) فإنما أعني به شحذ همة المسلم نحو قراءة القرآن الكريم قراءة التدبر، والقراءة الشريعة باسم ربه الذي خلقه من علق، وعلمه ما لم يكن يعلم، لا قراءة (التأويل) الذي يحرف الكلم عن مواضعه، بحثاً عن (الرأي) في النص، فيصرف النص عن مراده الشرعي إلى مرادات مذهبية خاصة. وإنما تكون القراءة شرعية بأن تراعى قواعد التفكير والتدبير التي سبق تفصيل القول فيها، لأن سوء التأويل من أخطر محذورات القراءة الشرعية.
- أما مدلول العقيدة: فإن اصطلاح العقيدة قد أصابه الاضطراب والتحريف والانحسار، فانفصلت عن العقيدة أمور كثيرة كانت تعد في أصل الوحي جزءاً لا يتجزأ منها، كقضية تطبيق الشريعة، مثلاً، وأسهم علم الكلام بحظ وافر في ذلك الفصل والاختصار، فانتهى الأمر بمفهوم العقيدة إلى الانفصال عن الحياة، والإغراق في التجريد، ولذلك فبقدر ما ينبغي تجديد مفهوم العقيدة ببيان مركزية المفاهيم العقدية في البناء المفهومي العام للإسلام، بقدر ما ينبغي تجديده ببيان تأثيره في كافة مكونات النسيج المفهومي للقرآن الكريم والسنة الصحيحة: سواء من ذلك ما تعلق بالمفاهيم النظرية أو المفاهيم العملية التشريعية، إذ الإيمان جوهر العمران، وكفيله ومجدده.