واستشهدت لأثر المشرب الدعوي على فهم النصوص بأحوال ثلاثة من الأئمة: الإمام أبي الحسن الأشعري، الذي نشأ في أحضان الاعتزال، ثم تبرأ منه ـ بعد أن أقام عليه أربعين سنةـ وتحول إلىإثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك، ثم تحول إلى منهج السلف في إثبات جميع صفات الباري ـ عز وجل ـ من غير تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تكييف أو تحريف، كما أثبت ذلك في كتابه الإبانة عن أصول الديانة، إلا أن أتباعه تشبثوا في كل مرحلة من مراحل دعوته بنسبة مقالاتهم إلى أبي الحسن الأشعري مع رجوعه عما ينسبونه له، وتحوله إلى منهج السلف في هذا الباب، ثم الإمام الحافظ عبدالغني المقدسي، الذي نشأ على منهج السلف، فكان المشرب الدعوي القويم حاجزاً مانعاً له من الزلات، ودافعاً قوياً لحمل النصوص علىمراد الشارع، وسبباً لقدرته على مقاومة المخالف للمنهج القوي، وثباته وصموده أمام الاضطهاد والبلاء بالغير، ثم الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي نشأ على المذهب الزيدي، ثم انقلب على الزيدية، إلا إنه لم يشأ أن يسخطهم كل السخط، فاستدل بأدلتهم، ورد أقوالهم متسعيناً بمنهجهم، بما جعله يتنزل في الحجة تنزلاً خالف فيه منهج أهل السنة، كما يستشعر القارئ البصمات الزيدية في طيات فقهه، وما سبب ذلك إلا المشرب الدعوي الزيدي الذي نشأ عليه الإمام الشوكاني.
وفي المبحث الثاني بينت عمق أثر الممارسة الدعوية على الفقيه في علمه وتقواه وورعه وحسن أخلاقه وتواضعه وثقته بربه وغيرته على دينه ومهاراته في أداء رسالته، إذ الدعوة مدرسة للداعية والمدعو، وتزيد الفقيه فضلاً إلى فضله.
وفي المبحث الثالث تحدثت عن تأثر الفقيه بدعوة غيره، ومدى حساسيته وشفافيته لنداء ربه، ودعوة غيره لامتثال أوامر الله ونواهيه، فالفقه والعلم سبب للوقوف عند حدود الله، لا لتعديها، فإذا نُهي الفقيه عن منكر لم يستنكف أن ينزجر عنه، وإذا أُمِرَ بمعروف لم يتعال أن يرجع إليه. كما أنه بالمقابل يدرك خطورة الدعوة الفاسدة وضررها على الأمة أكثر من غيره، فيتصدى لها ـ بقدر خطورتها وفسادهاـ ليحفظ للأمة دينها وعقيدتها، بخلاف غيره الذي ربما لا يدرك أي فساد أو خطر من تلك الدعوة.