إن ما يؤكد أهمية الدولة العثمانية في أذهان المسلمين، وقيمة مؤسسة الخلافة في المنظور الإسلامي أن ولاء المسلمين لها لم يكن له أبدا علاقة بضعفها أو قوتها، حتى أن ولاء المغاربة مثلا للدولة العثمانية لم ينقطع بانتهاء الحرب العالمية الأولى، ووجودها في صف المنهزمين، بل إن اندحارها وانكسارها مع حلفائها زاد في انشغال المغاربة بمصير مركز خلافتهم وتلهفهم على تتبع الأحداث والتطورات المتعلقة به، ولا أدل على صدى الأحداث التركية وانعكاساتها المباشرة على الرأي العام المغاربي, من الرجة التي اهتزت لها نفوس المغاربة وخفقت لها قلوبهم من جراء الاحتلال اليوناني – في مارس ١٩٢٠ – لعاصمة الخلافة.
لقد كانت تلك التطورات وراء ردود فعل شعبية في كل من طرابلس الغرب, وخصوصا في تونس أي تظاهر الطلبة الزيتونيون أمام مقر الإقامة العامة احتجاجا على احتلال جيوش الحلفاء لعاصمة الخلافة، كما تتبعت الصحافة سير المعارك على التراب التركي، بحيث لم تنفرج الأوضاع إلا بورود أنباء انتصارات مصطفى كمال على الجيش اليوناني، فانتظمت الاحتفالات وأبرق التونسيون للكماليين، كما انبرى الشعراء مخلدين تلك الانتصارات المدوية، كما عرفت الجزائر نفس الأجواء الاحتفالية، وتتبع أهالي المغرب الأقصى أصداء الزحف التركي وتحرير البلاد.
إن أهمية الخلافة وقدسيتها – بقطع النظر عن مدى جدوى وفاعلية المؤسسة المذكورة – كان وراء ليس فقط لهفة المسلمين عامة وأهل المغرب العربي خاصة عن مصيرها على إثر اقتحام جيوش الحلفاء للتراب التركي، وإنما بالخصوص سببا لقبولهم بفصل الكماليين بين السلطتين الدينية والدنيوية بجعل الخليفة صاحب منصب ديني وشخصية روحية فقط، مقابل جعل السلطة السياسية من مشمولات الوزراء، ورغم أن الفصل المذكور مخالف تماما للمفهوم التقليدي لمؤسسة الخلافة، فإنه قوبل – في تونس مثلا – بالاستحسان، وتكونت، سنة ١٩٢٢ – (لجنة الخلافة) برئاسة أحمد توفيق المدني أبرقت إلى الخليفة عبد المجيد!، كما أيد الأمير خالد وبعض الأوساط الدينية الجزائرية ذلك الفصل!.
ورغم إقرارنا بأن قبول المسلمين آنذاك بما ذكر يجد مبرراته في انتصارات الكماليين التي أوجدت لهم – لدى الرأي العام الإسلامي – عذرهم فقبل (تجاوزاتهم) وغض عنها الطرف، فإن السبب الرئيسي في ذلك القبول يعود – في نظرنا – إلى عدم مس الكماليين – إلى حد سنة ١٩٢٣ – بمؤسسة الخلافة لحساسيتها بالنسبة إلى المسلمين، وخطورة المس بها، والدليل هو أنه لما تجرؤوا (الكماليون) – في مارس ١٩٢٤ – على إلغائها وطرد الخليفة، صعق المسلمون، واستنكروا التجاوز الخطير الذي لم يعد كل ما أنجزه مصطفى كامل – الذي لقبوه بالغازي – كافيا ولا مبررا للسكوت عنه، وبذلك استهدف الكماليون إلى جملة تشنيع واسعة النطاق، وانبري الشعراء يهاجمون من كانوا – بالأمس القريب – يمدحونهم، كما انقلب عليهم العديدون ممن ناصروهم وساندوهم حتى نهاية سنة ١٩٢٣.
إن إجلال المسلمين وتقديسهم لمنصب الخلافة، ورفضهم المطلق لزوال مؤسسة ارتبطت بوجودهم، وامتزجت بتاريخهم وحضارتهم جعل التونسيين مثلا يتمسكون ببيعة الخليفة عبد المجيد حتى وهو مبعد في سويسرا!!، بل أن الأيمة استمروا في الجوامع – حتى مطلع الثلاثينات – يخطبون باسم الخليفة العثماني، بل إن الإصرار على ضرورة وجود خليفة كان وراء تهافت العديد من (المترشحين) على الفوز بالمنصب المذكور الذي انعقدت من أجل إحيائه العديد من المؤتمرات في ظرفية بدأت فيها بعض البلدان الإسلامية تعرف بوادر تيارات ثقافية وسياسية ليبرالية وعلمانية!!.
إن كل تلك التطورات والتحولات تحملنا على التساؤل عما إذا كان إلغاء الخلافة قد شكل قطيعة جذرية على مستوى الفكر السياسي في تاريخ العالم الإسلامي بأن حَرَرَهُ من كابوس مؤسسة ضاغطة حالت دون تطوره خصوصا في ظرفية لم تعد فها الثقافة الإسلامية التقليدية هي السائدة، الأمر الذي كان وراء بداية انزياح المعالم الفكرية والثقافية المميزة لفترة تاريخية سادت فيها مفاهيم (أممية) جسدتها في المنظور الإسلامي التقليدي مصطلحات (الأمة) والجامعات الإسلامية، وأشرت – بالتالي – لبداية مرحلة جديدة من النضال السياسي، قوامها الأحزاب والتنظيمات الوطنية، وتكريس القطرية في مفهومها الإقليمي الضيق، الأمر الذي جعل حركات التحرر تعول – في كسبها للمعركة – ليس فقط على الالتصاق بالجماهير الشعبية توسيعا لقاعدتها، وإنما كذلك على دعم ومساندة القوى الحرة المناهضة للاستعمار، والمنافحة عن حق الشعوب في التحرر والانعتاق.