ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين من مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهاراً لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه وحصل لهم الغرض الموافق لهم وخبطوا في دين الإسلام كيف شاؤوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب وعلى دولتهم أن تذهب وعلى أموالهم أن تنهب وعلى حرمتهم أن تنتهك وعلى عزهم أن يذل ووجدوا عظيم السبيل إلى التخلص عن أكثر الأحكام الإسلامية قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فرّ عنا العارفون بالدين وهرب منا العلماء العاملون. وفي الحقيقة أنهم معدون ذلك فرصة انتهزوها وشدة أطلقت عن أعناقهم وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحاً بذلك وأعظم سروراً منهم، فإنه قد خلي بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء ويستعبدهم كيف أراد، وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها.
وسبب هذا البلاء العظيم والخطب الوخيم والرزء للإسلام وأهله الذي لا يقادر قدره ولا يتهيأ مدى الدهر مثله صنفان من الناس: الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم وعبدوا بغير فهم وتورعوا بغير إدراك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية وما يفضي إلى تعطل الأحكام وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدروا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لما لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها ويصدرونها مصادرها جعلوا لقصورهم أهل المناصب الدينية التي لا يتم أمرها ولا ينفذ حكمها إلا بسلطان الأرض وملك البلاد من جملة أنواع الظلم وجعلوا صاحبها من جملة أعوان الظلمة وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها وقبلوها حق قبولها، بخلوِّ أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فطار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين كانوا يقصون على الناس ويتصدرون لوعظهم وتذكيرهم لما هم عليه من جهل الشريعة، ولما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة والقصص الباطلة وكان عليهم أن يقصروا عن ذلك ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم.