والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم وأهلية له، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه وأنهم تركوه اختياراً ورغبة وتنزهاً عنه وضربت ألسنتهم بسب أهل المناصب الدينية وثلب أعراضهم والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك وأخذ بعض من بيوت الأموال وأن أهل المناصب قد صاروا أعواناً للظلمة ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع التعفف عن ذلك والتورع عنه بنيات فاسدة كاسدة مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة لغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل:
يدعوا وكل دعائه ........... ما للفريسة ما تقع
عجل بها ياذا العلى .......... إن الفؤاد قد انصدع
وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من ظفر بعد استكثاره من هذه البليات بمنصب من المناصب فكان أشر أهل ذلك المنصب، وبلغ في التكالب على الحطام والتهافت على الحرام إلى أبلغ غاية.
ومنهم من جالس بعد مزيد التعفف وكثرة التأفف ملكاً أو قريب ملك أو صاحب ملك، فصار يطريهم بما يستحل بعضه فضلاً عن كله من له أدنى وازع من دين، بل أدنى زاجر من عقل، بل عرفنا من صار منهم نماماً وضعه من يتصل به لنقل أخبار الناس إليه ففعل، ولكن لم يقتصر على نقل ما سمع بل جاوز ذلك إلى التزيد عليه بالزور والبهت حتى يجعل ذلك الذي وضعه للنقل عدواً عظيماً لمن لا ذنب له، ولا قال بعض ما كذب به عنه فضلاً عن كله.
والجملة ما جربنا واحداً من هذا الصنف إلا وكشفت الأيام عن باطن يخالف ما كان يظهره وقول وفعل ينافي ما كان يشتغل به أيام تعطله، فليأخذ المتحري لدينه حذره منهم، ولا يركن إليهم في شيء من الأعمال الدينية كائن من كان.
فإن قلت: إذا ظهروا ظهوراً بيناً أن بعض المداخلين يعينه على ظلمه بيده أو لسانه أو يسوغ له ذلك، أو يظهر من الثناء عليه ما لا يجوز إطلاقه على مثله؟ قلت: من كان هكذا فهو من جنس الظلمة وليس من الجنس الذي قدمنا ذكرهم من المداخلين لهم، والظلم كما يكون باليد يكون باللسان وبالقلم وقد يكون ذلك أشد، وكلامنا فيمن يتصل بهم غير معين لهم على ما لا يحل ولا مشارك لهم بيد ولا لسان، بل يكون جل مقصده بالاتصال بهم الاستعانة بقوتهم على أحكام الله عز وجل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحسب الحال وبما تبلغ إليه الطاقة، مثلاً إذا كان العالم ينكر ما يراه من المنكرات على الرعايا ولا يقدر على ذلك إلا إذا كان له يد من السلطان يستعين بها على ذلك، فهذا خير كبير وأجر عظيم، وكذلك إذا كان لا يقدر على فصل الخصومات وإرشاد الناس إلى الطاعات إلا باليد من السلطان فذلك مسوغ صحيح أيضاً، وهكذا إذا كان لا يقدر على تخفيف بعض ما يفعله وزراء السلطان وأمراؤه وأهل خاصته من الظلم إلا باتصاله بالسلطان، فهو أيضاً مسوغ صحيح، وهكذا إذا كان السلطان يصغي في الموعظة منهم في بعض الأحوال وينزجر عن فعل المنكرات، أو يخفف ذلك شيئاً ما، فهذا مسوغ صحيح.