ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام من أهل العلم والفضل القائمين بالمناصب الدينية قد وقع في إساءة الظن بجميع من اتصل بهم على الصفة التي بيناها من دخول جميع هذا الجنس تحت سوء ظنه وباطل اعتقاده وزائف خواطره وفاسد تخيلاته وكاسد تصوراته، وفي هذا ما لا يخفى من مخالفة هذه الشريعة المحمدية والطريقة الإيمانية، ومع هذا فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية قد يفضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات لا يرضى به بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشديد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو شدد في ذلك الدون لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعاً فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويجادله حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما على أن ذلك الرجل يضرب على شريطة اشترطها السلطان وهو أن يكون الذي يضربه العالم فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذي في مثل ذلك للفرجة فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع وهم يشتمونه أقبح شتم وهم غير ملومين لأن هذا في الظاهر منكر فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك، ولو انكشفت لهم الحقيقة واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل وتفاداه بضرب العصا عن ضرب السيف لرفعوا أيديهم بالدعاء والترضي عنه، ويظن الجهول قد فسد الأمر وذاك الفساد عين الصلاح، ومن هذا القبيل ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به من تسعير بعض البضائع فخرج السلطان وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء وقرب من السلطان وهو راكب فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره وأنه لا عذر عن قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنهم لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه وقد ظهر عليه من الغضب ما ظهر أثره ظهوراً بيناً وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا، هو من عهدتي لأن فيه حفظ دينك وهو من عهدتي فأطلقهم السلطان وسلموا من القتل، فانظر هذا العالم وبصره في إنكار المنكر فإنه لو قال له ابتداء: إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل لكان هذا القول مما يوبقهم لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان: ليس هذا من عهدتك لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة تؤثر في النفس أعظم تأثير ولا شك أن مساعدته في مخالفة أمر السلطان وعدوله إلى أنه لم يبلغهم الأمر إذا سمعها من لا يعرف الحقائق أنكر عليه وقال: وكيف يكون أمر السلطان في تسعير بضاعة أو نحو ذلك موجباً لقتل من لم يمتثل وعد ذلك من المداهنة وعدم التصميم على الحق ولو عقل ما عقله ذلك العالم الصالح لعلم أنه قد جارى السلطان مجاراة كانت سبباً لسلامة جماعة كثيرة من المسلمين، ولو لم يفعل ذلك لقتلوا جميعاً.