للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا عرفت هذا وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة في بعض الحالات وكذلك الأقوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر وتبين أنها من أعظم الطاعات وأحسن الحسنات، فكيف بما كان منها محتملاً، هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار ويقتحم عقبه المحرم من الغيبة والبهت، وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكراً وكون ما أمر به معروفاً وهل هذا إلا الجهل الصراح أو التجاهل البواح، دع هذا وانتقل منه إلى شيء لا يحمل عليه الجهل بل مجرد الحسد أو المنافسة كما هو الغالب على ما تقدم بيانه، فإن أهل المناصب الدينية من القضاة ونحوه إذا اشتغل صاحبه بما وكل إليه وتجنب ما فيه عمل الملوك وأعوانهم من تدبير المملكة وما يصلحها وما يحتاج إليه ويقوم بجندها وأهل الأعمال فيها إلا إذا اقتضى الحال الكلام معهم فيما يوجبه الشرع من أمر بمعروف أو نهي عن منكر والقيام في ذلك بما تبلغ إليه الطاقة ويقتضيه طبع الوقت، فهل مثل هذا حقيق من عباد الله الصالحين بالدعوات المتكررة بالتثبت والتسديد واستمداد الإعانة له من رب العالمين أم هو حقيق بالثلب والاغتياب خطأ وجزافاً وحسداً ومنافسة؟ وهل هذا شأن الصالحين من المؤمنين أم شأن إخوان الشياطين؟ كما قيل:

إن يسمعو الخير يخفوه وإن سمعوا ........ شراً أذاعوا وأن لم يسمعوا كذبوا

وكما قيل: إن يسمعوا سُبَّةً طاروا بها فرحاً ..... عني وما سمعوا من صالح دفنوا

فكيف إذا كانوا لا يسمعون إلا خيراً ولا يعدد المعدون إلا مناقباً؟ فما أحق من كان ذا عقل ودين أن لا يرفع إلى مخرقتهم رأساً ولا يفتح بخزعبلاتهم أذناً كما قلت من أبيات:

فما الشم الشوامخ عند ريح ........ تمر على جوانبها تمود

ولا البحر الخضم يعاب يوماً ....... إذا بالت بجانبه القرود

اجتمعت في أيام الطلب بجماعة من أهل العلم، فسمعت من بعض أهل العلم الحاضرين ثلباً شديداً لوزير من الوزراء، فقلت للمتكلم: أنشدك الله يا فلان، أن تجيبني عما أسألك عنه وتصدقني قال: نعم، قلت له: هذا الثلب الذي جرى منك هل هو لوازع ديني تجده من نفسك لكون هذا الذي تثلبه أرتكب منكراً أو اجترأ على مظلمة أو مظالم؟ أم ذلك لكونه في دنيا حسنة وعيشة رافهة؟ ففكر قليلاً ثم قال: ليس ذلك إلا لكون الفاعل ابن الفاعل يلبس الناعم من الثياب ويركب الفاره من الدواب، ثم عدد من ذلك أشياء، فضحك الحاضرون. وقلت له: أنت إذن ظالم له تخاطب بهذه المظلمة بين يدي الله وتحشر مع الظلمة في الأعراض، وذلك أشد من الظلم في الأموال عند كل ذي نفس حرة ومريرة مرة (١)، ولهذا يقول قائلهم:

يهون علينا أن تصاب جسومنا ......... وتسلم أعراض لنا وعقول

وبالجملة فإني أظن أن الظلمة في الأعراض أجرأ من الظلمة في الأموال، لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم وهو المال الذي به قيام المعاش وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتاً بحتاً حراماً، وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران مع كونه فعل جهد من لا له جهد وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة وتستصغر فاعله الطبائع العلية والقوى الرفيعة.


(١) أي عزة النفس والعزيمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>